الاثنين 22 جمادى الآخرة 1446 - 23 ديسمبر 2024
العربية

هل يجوز أن يتصدق بجميع ماله ويحرم الورثة؟

380570

تاريخ النشر : 16-07-2022

المشاهدات : 25743

السؤال

لدي استفسار عن موضوع فى الميراث، للعلم به فقط لا أكثر، قالت إحدى الأمهات لي: إن معها مبلغا ماليا كبيرا، ودائما تقول إنها ستصرف كل المال الذي معها في الخير، ولن تترك لأولادها أي شيء؛ لعدم رضاها عنهم، وعدم برهم بها. السؤال: فهل يحق للأم التصرف في كامل مالها بدون ضوابط؟

الحمد لله.

أولا:

تصدق الإنسان بماله في حال الصحة

يجوز للإنسان أن يتصدق ويتصرف في جميع ماله إذا كان في حال الصحة، أي في غير مرض الموت، وكان فاضلا عن كفايته وكفاية من يعول.

وهذا التصدق يستحب بشرطين:

1-أن يكون له راتب أو مكسب، يعيش منه بعد التصدق بجميع ماله.

2-أن يكون ممن يحسن التوكل والصبر على الفقر.

فإن فُقِد الشرطان: كُره له أن يتصدق بجميع ماله.

قال ابن قدامة رحمه الله: "والأولى أن يتصدق من الفاضل عن كفايته، وكفاية من يمونه على الدوام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول متفق عليه.

فإن تصدق بما ينقص عن كفاية من تلزمه مؤنته، ولا كسب له، أثم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون. ولأن نفقة من يمونه واجبة، والتطوع نافلة، وتقديم النفل على الفرض غير جائز.

فإن كان الرجل وحده، أو كان لمن يمون كفايتُهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقا من نفسه، يحسن التوكل والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة، فحسن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أفضل الصدقة، فقال: جهد من مقل إلى فقير في السر . وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئته بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أبقيت لأهلك؟ قلت: أبقيت لهم مثله، فأتاه أبو بكر بكل ما عنده، فقال له: ما أبقيت لأهلك؟ قال: الله ورسوله فقلت: لا أسابقك إلى شيء بعده أبدا.

فهذا كان فضيلة في حق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لقوة يقينه، وكمال إيمانه، وكان أيضا تاجرا ذا مكسب، فإنه قال حين ولي: قد علم الناس أن كسبي لم يكن ليعجز عن مؤنة عيالي. أو كما قال - رضي الله عنه -.

وإن لم يوجد في المتصدق أحد هذين: كُره؛ لما روى أبو داود، عن جابر بن عبد الله.

قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يأتي أحدكم بما يملك، ويقول: هذه صدقة ثم يقعد يستَكِفُّ الناس؟! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. فقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المعنى الذي كره من أجله الصدقة بجميع ماله، وهو أن يستكف الناس، أي يتعرض لهم للصدقة، أي يأخذها ببطن كفه يقال: تكفف واستكف؛ إذا فعل ذلك.

وروى النسائي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى رجلا ثوبين من الصدقة، ثم حث على الصدقة، فطرح الرجل أحد ثوبيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألم تروا إلى هذا، دخل بهيئة بذة فأعطيته ثوبين، ثم قلت: تصدقوا. فطرح أحد ثوبيه، خذ ثوبك. وانتهره .

ولأن الإنسان إذا أخرج جميع ماله، لا يأمن فتنة الفقر، وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه؛ فيندم، فيذهب ماله ويبطل أجره، ويصير كَلًّا على الناس.

ويكره لمن لا صبر له على الإضاقة: أن ينقص نفسه من الكفاية التامة . والله أعلم" انتهى من "المغني" (2/102).

ومما يدل على جواز الصدقة بجميع المال: ما روى البخاري (2552)، ومسلم (4973) عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي: أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي، صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :  أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ .

قال الشوكاني رحمه الله : " دَلَّ حَدِيثُ كَعْبٍ أَنَّهُ يَشْرُعُ لِمَنْ أَرَادَ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَنْ يُمْسِكَ بَعْضَهُ ، وَلا يَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ نَجَّزَهُ لَمْ يَنْفُذْ" انتهى من "نيل الأوطار" (8/288).

ثانيا:

حكم تصدق الشخص بجميع ماله وحرمان الورثة

إذا كان للمتصدق أولاد وورثة، فحرمهم، وتصدق بجميع ماله، صحت صدقته.

قال الخطابي رحمه الله في "معالم السنن" (3/173) " ولا خلاف أنه لو آثر بجميع ماله أجنبياً، وحرم أولاده: أن فعله ماضٍ " انتهى.

لكن ليس هذا هو المشروع في حقه، والمندوب له؛ بل ينبغي عليه أن يدع شيئا لورثته؛ لا سيما إن كانوا فقراء.

وذلك لما روى البخاري (2742)، ومسلم (1628) عَنْ سعد رضي الله عنه، قَالَ: "عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ:  لَا ، قَالَ: قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ:  لَا، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ .

وفي رواية للبخاري: "قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟".

ثالثا:

لا نرى حمل كلام الوالدة على محمل التنفيذ، وأنها تريد حرمان ورثتها، فالغالب أن هذا كلام يقال لإظهار عدم الرضى، ثم لا يتبعه تصدق بالفعل.

وعلى كلٍّ ، فلها الحرية التامة في مالها، إلا أن يكون لديها من تلزمها نفقته، فتنفق عليه وتتصدق بالباقي.

رابعا :

ما دامت الأم تقول ذلك غضبا على أولادها لعدم برهم بها –وهم يعلمون ذلك – فالواجب عليهم التوبة إلى الله تعالى من إغضاب أمهم ، وعليهم أن يقوموا ببرها والإحسان إليها، فإن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب التي تهلك صاحبها في الدنيا والآخرة .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب