الحمد لله.
أولا:
حديث: كل ابن آدم خطاء
الحديث الأول رواه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، والإمام أحمد في "المسند" (20 / 344)، وغيرهم: عن عَلِيّ بْنِ مَسْعَدَةَ البَاهِلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ.
وفي سنده عَلِيُّ بْنُ مَسْعَدَةَ البَاهِلِيُّ، وقد تفرد بروايته، وهو مختلف فيه، فقد وثّقه جمع من العلماء، وضعّفه آخرون فضعفوا ما تفرد بروايته، كمثل هذا الحديث، فلذا قال الترمذي عقبه: "حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ مَسْعَدَةَ عَنْ قَتَادَةَ ".
وذكر ابن عدي في ترجمة عَلِيّ بْن مَسْعَدَةَ؛ هذا الحديث وغيره، ثم قال:
"ولعلي بْن مسعدة غير ما ذكرت، عَن قَتادَة، وكلها غير محفوظة" انتهى من "الكامل"(6/ 354).
ومن لم يضعّف علي بن مسعدة، رأى تصحيح أو تحسين هذا الحديث.
وممن أعل الحديث من الأئمة: الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، قال: "هذا حديث منكر" كذا في "المنتخب من علل الخلال" لابن قدامة، رقم (37).
وينظر في تخريج الحديث، وبيان من أعله من الأئمة: "التبيان في تخريج وتبويب أحاديث بلوغ المرام"، خالد الشلاحي (11/299-301).
وأما حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا قَدْ أَخْطَأَ، أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ؛ فرواه الإمام أحمد في "المسند" (4 /144-145)، وغيره: عن عَلِيّ بْن زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وفي هذا الإسناد:
علي بن زيد ابن جدعان؛ وقد نص على تضعيفه جمع من أئمة الحديث.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" علي بن زيد بن جدعان، صالح الحديث، قال حماد ابن زيد: كان يقلب الأحاديث. وذكر شعبة: أنه اختلط. وقال أحمد: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: ليس بقوي يهم ويخطئ. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال الدارقطني: لا يزال عندي فيه لين " انتهى من"المغني" (2/447).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" علي بن زَيْد بن عبد الله بن زُهَيْر بن عبد الله بن جُدْعان التَّيْمي، البصري، أصلُه حِجازي، وهو المعروف بعلي بن زَيْد بن جُدْعان، ينسب أبوه إلى جدِّ جدِّه: ضعيفٌ " انتهى من"تقريب التهذيب" (ص401).
وضعفه ابن كثير رحمه الله تعالى، ثم ساق له بعض الشواهد، حيث قال:
" علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وهو منكر الحديث، وقد رواه ابن خزيمة، والدارقطني، من طريق أبي عاصم العباداني، عن علي بن زيد بن جدعان به مطولا ثم قال ابن خزيمة: وليس على شرطنا...
وقد رواه محمد بن إسحاق، وهو مدلِّس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا)، فهذا من رواية ابن إسحاق، وهو من المدلسين، وقد عنعن هاهنا.
ثم قد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مرسلا. ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة عن يحيى بن سعيد الأنصاري به.
ثم قد رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق، حدثنا محمد بن الأصبهاني، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو قال: (ما أحد إلا يلقى الله بذنب، إلا يحيى بن زكريا ...)، وهذا موقوف من هذه الطريق، وكونه موقوفا أصح من رفعه. والله أعلم.
وأورده ابن عساكر من طرق، عن معمر، من ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر، وهو ضعيف، عن عثمان بن ساج، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه " انتهى من"البداية والنهاية" (2 /403-405).
وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى لشواهده، كما بسط ذلك في "السلسلة الصحيحة" (6 / 1206-1212).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(146658).
ثالثا:
توضيح التعارض بين حديث: كل ابن آدم خطاء وبين عصمة يحيى عليه السلام
من ترجّح لديه ضعف الحديثين، فإنه يسقط وجه التعارض الذي أشرت إليه؛ لأن من شأن التعارض الظاهري الذي يجتهد في دفعه وبيان أنه لا حقيقة له، أن يكون ما بين الصحيح من النصوص لا الضعيف منها.
وأما من حسّنهما من أهل العلم؛ كما أشرت في السؤال، فوجه دفع التعارض هنا أن يقال : إن الحديث، وإن كان لفظه عاما، فهو مخصوص بمن ثبتت عصمته.
والتخصيص يدخل نصوص الأخبار كما يدخل على نصوص الأوامر.
جاء في "المسودة في أصول الفقه" (1/305):
"يدخل التخصيص الأخبار كالأوامر، نصّ عليه، وهو قول الجمهور" انتهى.
وقال ابن النجار الحنبلي رحمه الله تعالى:
"قال ابن قاضي الجبل: يجوز ورود العام والمراد به الخصوص، خبرا كان أو أمرا.
قال أبو الخطاب: وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله في قوله تعالى: ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) قال: وأتت على أشياء لم تدمرها، كمساكنهم والجبال" انتهى من "شرح الكوكب المنير" (3/ 168).
فتكون عبارة: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ)؛ من العام الذي أريد به الأكثرية، ولم يرد به استغراق جميع أفراد الناس، فيستثنى منه من أكرمه الله تعالى بالعصمة من خواص عباده، ودليل الاستثناء والتخصيص: الحديث الثاني حديث ابن عباس رضي الله عنه.
قال الصنعاني رحمه الله تعالى:
"(كل بني آدم خطاء) أي كثيرو الخطأ إذ هو صيغة مبالغة والحديث دال على أنه لا يخلو من الخطيئة إنسان لما جبل عليه هذا النوع من الضعف... وقد خص من هذا العموم يحيى بن زكريا عليه السلام، فإنه ورد أنه ما هم بخطيئة " انتهى من "سبل السلام"(8/265).
ونظير ذلك، قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) الأحقاف/25.
قال ابن عطية رحمه الله تعالى:
" وقوله: (كُلَّ شَيْءٍ)، ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره ... " انتهى من "المحرر الوجيز" (5/102).
والله أعلم.
تعليق