الحمد لله.
أولا :
يجوز للمسلم أن يفطر إذا غلب على ظنه أن الشمس قد غربت ، ولا يشترط أن يتيقن ذلك .
قال البهوتي رحمه الله في "الروض المربع" (3/433):
"وله الفطر بغلبة الظن" انتهى.
قال ابن قاسم رحمه الله في حاشيته : "وفاقا" انتهى . أي : باتفاق الأئمة الأربعة .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"فإن قال قائل: هل لي أن أفطر بغلبة الظن، بمعنى : أنه إذا غلب على ظني أن الشمس غربت، فهل لي أن أفطر؟
فالجواب: نعم، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم طلعت الشمس ومعلوم أنهم لم يفطروا عن علم، لأنهم لو أفطروا عن علم ما طلعت الشمس، لكن أفطروا بناءً على غلبة الظن أنها غابت، ثم انجلى الغيم فطلعت الشمس" انتهى من "الشرح الممتع" (6/436).
ثانيا :
فإن أفطر المسلم بناء على ظنه ، ثم تبين له أنه أخطأ ، فما حكم صيامه ؟
ذهب أكثر العلماء إلى أن صيامه غير صحيح ، وأن عليه القضاء ، وقد اختار هذا القول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، وعلماء اللجنة الدائمة للإفتاء .
ينظر : فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (14/290) ، فتاوى اللجنة الدائمة (10/290) .
وذهب بعض العلماء إلى أن صيامه صحيح ، ولا قضاء عليه ، وأنه معذور بخطئه ، وقد ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال به عروة بن الزبير ، وإسحاق بن راهويه ، ورواية عن الإمام أحمد ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، ورجحه من العلماء المعاصرين الشيخ ابن عثيمين .
قال ابن قدامة رحمه الله :
"( وَإِنْ أَكَلَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ ، وَقَدْ كَانَ طَلَعَ ، أَوْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ ، وَلَمْ تَغِبْ ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ )
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ .
وَحُكِيَ عَنْ عُرْوَةَ ، وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ ، وَإِسْحَاقَ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : كُنْت جَالِسًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ ، فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَأُتِينَا بِعِسَاسٍ فِيهَا شَرَابٌ مِنْ بَيْتِ حَفْصَةَ ، فَشَرِبْنَا ، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ مِنْ اللَّيْلِ ، ثُمَّ انْكَشَفَ السَّحَابُ ، فَإِذَا الشَّمْسُ طَالِعَةٌ .
قَالَ : فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ : نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ .
فَقَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ لَا نَقْضِيه ، مَا تَجَانَفْنَا لَإِثْمٍ .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْأَكْلَ فِي الصَّوْمِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ ، كَالنَّاسِي .
وَلَنَا : أَنَّهُ أَكَلَ مُخْتَارًا ، ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ ، فَأَفْطَرَ ، كَمَا لَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكَّ ، وَلِأَنَّهُ جَهْلٌ بِوَقْتِ الصِّيَامِ ، فَلَمْ يُعْذَرْ بِهِ ، كَالْجَهْلِ بِأَوَّلِ رَمَضَانَ ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَأَشْبَهَ أَكْلَ الْعَامِدِ ، وَفَارَقَ النَّاسِيَ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ : مَنْ أَكَلَ فَلْيَقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ .
وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" أَنَّ عُمَرَ قَالَ : الْخَطْبُ يَسِيرٌ . يَعْنِي خِفَّةَ الْقَضَاءِ .
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ امْرَأَتِهِ ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ : { أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ غَيْمٍ ، ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ .
قِيلَ لِهِشَامٍ : أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ ؟ قَالَ : لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ ؟ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ" انتهى من "المغني" (4/389) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَفْطَرْنَا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ فِي غَيْمٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ مَعَ الْغَيْمِ التَّأْخِيرُ إلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ الْغُرُوبَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالصَّحَابَةُ مَعَ نَبِيِّهِمْ: أَعْلَمُ وَأَطْوَعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ.
وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَمَرَهُمْ بِالْقَضَاءِ لَشَاعَ ذَلِكَ، كَمَا نُقِلَ فِطْرُهُمْ ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قِيلَ لِهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: أوَبُدٌّ مِنْ الْقَضَاءِ؟
قِيلَ: هِشَامٌ قَالَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِذَلِكَ عِلْمٌ: أَنَّ مَعْمَرًا رَوَى عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت هِشَامًا قَالَ: لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا؟ ذَكَرَ هَذَا وَهَذَا عَنْهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ. وَقَدْ نَقَلَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْقَضَاءِ ، وَعُرْوَةُ أَعْلَمُ مِنْ ابْنِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه" انتهى من "مجموع الفتاوى" (25/231).
وينظر "الشرح الممتع" (6/397) .
ثالثا:
هذا تأصيل المسألة، ويُحتاج إليه عند الفطر مع الغيم، أو قبل الوقت بدقائق يسيرة.
وأما الفطر قبل الوقت بنصف ساعة، فهذا تفريط واضح، حتى لو قال المفطر: غلب على ظني غروب الشمس، فهذا وهم بُني على تفريط، خاصة إذا استمر على ذلك أياما كثيرة، ولم يكن الأمر مرة أو مرتين .
وإذا لم يكن يؤذن للصلاة في بلد الصائم، فأولى له أن يحتاط لعبادته، ويتعرف الوقت الصحيح لصومه وصلواته، وهذا أمر سهل ميسور لكل أحد مع وجود البرامج التي تحدد المواقيت بدقة، وهي متوفرة على أجهزة الهواتف وغيرها؛ فإذا لم يكن في البلدة أذان، ولم تبحث هي عن مواعيد الصلاة في هذه البرامج وأمثالها؛ فكيف تصلي هذه الأخت؟!
فالواجب أن تتوب إلى الله تعالى من تفريطها، وأن تقضي هذه الأيام، وتقدر عددها بالأحوط الذي تبرأ بها ذمتها.
والله أعلم.
تعليق