أولًا:
المصحف الذي بين أيدينا مكتوب بالرسم العثماني، وتعني عبارة (رسم المصحف) طريقة رسم الكلمات في المصحف، من ناحية (عدد حروف الكلمة، ونوعها، وطريقة رسمها)؛ لا من حيث (نوع الخط وجماليته)، كما هو اصطلاح الخطاطين.
ويستند رسم الكلمات في المصحف، إلى طريقة رسمها في المصاحف التي نسخت في خلافة عثمان، رضي الله عنه، والتي عرفت في المصادر الإسلامية باسم المصاحف العثمانية، نسبة إلى سيدنا عثمان، لكونه هو الذي أمر بنسخها، وإرسالها إلى البلدان خارج الجزيرة العربية، كما صار رسم الكلمات فيها يعرف بالرسم العثماني.
وقد حافظ المسلمون على رسم الكلمات في المصحف، كما جاءت في المصاحف العثمانية الأولى، مع ما في عدد منها من حذف بعض الحروف، أو زيادة بعضها، اقتداء بعمل الصحابة، رضي الله عنهم.
وقد كانت المصاحف العثمانية مجرَّدة من نقاط الإعجام، ومن الحركات، وغيرها من العلامات، لخلوِّ الكتابة العربية في تلك الحقبة منها، وبقيت الكتابة العربية تستعمل على ذلك النحو حتى النصف الثاني من القرن الأول الهجري، حين بدأت الدراسات اللغوية في العراق، وكان خلوُّ الكتابة العربية من العلامات من أولى المشكلات التي عالجتها تلك الدراسات.
وتُجمِع المصادر العربية القديمة: على أن أبا الأسود الدؤلي (ظالم بن عمرو [ت: 69]) هو أول من اخترع طريقة لعلامات الحركات، تعتمد على النقاط الحمر، وكان ذلك في البصرة، فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف، والكسرة نقطة تحت الحرف، والضمة نقطة أمام الحرف، وجعل التنوين نقطتين.
وتنسب المصادر العربية إلى نصر بن عاصم الليثي البصري (ت: 90)، وهو تلميذ أبي الأسود الدؤلي، اختراع نقاط الإعجام التي تميز بين الحروف المتشابهة في الرسم، مثل الدال والذال، والراء والزاي، ونحوها، وكان ذلك بتوجيه من الحجاج بن يوسف الثقفي في أثناء ولايته على العراق بين سنة (75 - 95 هـ).
ولم تستمر طريقة أبي الأسود الدؤلي في تمثيل الحركات بالنقاط الحمر طويلًا، لصعوبتها عند الكتابة، واحتمال التباسها بنقاط الإعجام التي وضعها نصر بن عاصم للتمييز بين الحروف المتشابهة في الرسم، وذلك حين جعل الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (ت: 170) الحركات حروفا صغيرة مكان النقاط الحمر، وكذلك وضع الخليل علامة للهمزة والتشديد والرَّوْم والإِشْمام، واستخدمت العلامات الجديدة تدريجيًا، حتى زالت طريقة الدؤلي بعد ذلك.
وصارت المباحث المتعلقة بالعلامات الكتابية، علمًا أُطلق عليه اسم (علم النَّقط والشَّكل)، وهو يعالج كيفية استخدام العلامات في رسم المصحف خاصة، ومذاهب العلماء في ذلك، وسمي هذا العلم في العصور المتأخرة بعلم الضبط.
ويمكن مراجعة ذلك في الكتب التالية:
1- الميسر في رسم المصحف، د. غانم قدوري الحمد، ط. معهد الإمام الشاطبي.
2- رسم المصحف، د. غانم قدوري الحمد، ط. دار عمار.
وانظر للأهمية: (252852)، (278624).
ثانيًا:
ما ذكر في السؤال هو من باب الإبدال، والإبدال: "إقامة حرف مكان حرف، مع الإبقاء على سائر أحرف الكلمة"، انتهى، "شرح شافية ابن الحاجب" (3/ 197).
والإبدال من الظواهر الصوتية الشائعة في اللغات المعروفة، وقد نص علماء العربية على ذلك، وذكروا له نظائر من العربية، وذكروا له عللًا، وهذا يؤخذ منه أن هذه الظاهرة: موجودة في اللغة العربية قبل نزول القرآن .
"الكتاب" لسيبويه: (4/ 478)، "جمهرة اللغة" (1/ 51)، "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" (1/ 156).
وانظر للأهمية، والتفصيل في شروط الإبدال: "تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد" (10/ 5243).
وقد نقل "الأزهري": «قَالَ الفرّاء فِي قَول الله جلّ وعزّ: أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (الطّور: 37) ، قَالَ: المصَيْطرون كتَابَتهَا بالصَّاد، وقراءتُها بالسّين وبالصاد.
ومثلُه قَوْله: مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (الغاشية: 22) ، ومثلُه: بَسْطَةً (الْبَقَرَة: 247) و (بَصْطة) كُتب بَعْضهَا بالصَّاد وَبَعضهَا بِالسِّين، وَالْقِرَاءَة بالسِّين.
وَقَالَ الزّجّاج: المسيطِرون: الأرباب المسلطون؛ يُقَال: قد تَسيطَر علينا وتصيطر بِالسِّين وَالصَّاد، وَالْأَصْل السّين، وكلّ سين بعدَها طاءٌ يجوز أَن تُقلبَ صاداً، نقُول: سَطْر وصَطَر، وسَطَا عَلَيْهِ، وصَطَا"، انتهى.
"تهذيب اللغة" (12/ 230).
وقال "ابن الجزري" عن الرسم: "فانظر كيف كتبوا (الصراط) و(المصيطرون) بالصاد المبدلة من السين، وعدلوا عن السين التي هي الأصل، لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم من وجه؛ قد أتت على الأصل، فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام محتملة، ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات ذلك، وعُدت قراءة غير السين مخالفة للرسم والأصل.
ولذلك كان الخلاف في المشهور في (بسطة) الأعراف، دون (بسطة) البقرة؛ لكون حرف البقرة كتب بالسين، وحرف الأعراف بالصاد.
على أن مخالف صريح الرسم، في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك= لا يعد مخالفًا، إذا ثبتت القراءة به، ووردت مشهورة مستفاضة، ألا ترى أنهم لم يعدوا إثبات ياءات الزوائد، وحذف ياء (تسئلني) في الكهف، وقراءة (وأكون من الصالحين)، والظاء من (بضنين) ونحو ذلك، من مخالفة الرسم المردود، فإن الخلاف في ذلك يغتفر، إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد، وتمشيه صحة القراءة وشهرتها وتلقيها بالقبول؛ وذلك بخلاف زيادة كلمة ونقصانها، وتقديمها وتأخيرها، حتى ولو كانت حرفًا واحدًا من حروف المعاني، فإن حكمه [أي: حرف المعنى]: في حكم الكلمة؛ لا يسوغ مخالفة الرسم فيه، وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته"، انتهى."النشر في القراءات العشر" (1/ 12 - 13).
وقال "ابن جني" في تقرير ذلك في لغة العرب: "ومن ذلك: أن تقع السين قبل الحرف المستعلي، فتقرّب منه بقلبها صادًا، على ما هو مبين في موضعه من باب الإدغام، وذلك كقولهم في سُقْت: صُقْت، وفي السوق: الصوق، وفي سبقت: صبقت» «وفي السوق: الصوق، وفي سبقت: صبقت، وفي سملق وسويق: صملق وصويق، وفي سالغ وساخط: صالخ وصاخط، وفي سقر: صقر، وفي مساليخ: مصاليخ"، انتهى. "الخصائص" (2/ 144 - 145).
وكلام ابن جني رحمه الله يؤخذ منه أن هذا الإبدال موجود في اللغة العربية ، وليس خاصا بالقرآن الكريم .
وقرر ذلك أيضا: "ابن السِّيد": "قد حكى ابن دريد أنه يقال: رسغ ورصغ.
وقد أجاز النحويون في كل سين وقعت بعدها غين أو خاء معجمتان، أو قاف أو طاء أن تبدل صادًا.
فإن كان صادًا في الأصل: لم يجز أن تقلب سينًا، نحو سخرت منه وصخرت، (وأسبغ عليكم نعمه) وأصبغ (وزادكم في الخلق بسطة) وبصطة.
فمتى رأيت من هذا النوع ما يقال بالصاد والسين، فاعلم أن السين هي الأصل، لأن الأضعف يُرد إلى الأقوى، ولا يرد الأقوى إلى الأضعف"، انتهى. "الاقتضاب في شرح أدب الكتاب" (2/ 196 - 197).
وهذا يدل على أن هذا التنوع والإبدال موجود في اللغة العربية .
فالحاصل: أنهم كتبوا هذه الأحرف بالصاد؛ للعلل السابقة، ونبهوا على أنها تقرأ بالسين في بعض المصاحف، كما نراه اليوم.
وهذه الظاهرة: ليست خاصة بالقرآن الكريم، بل هي معروفة في لغة العربة، تكلم عنها أهل العربية، في كلمات كثيرة، ليست من القرآن الكريم.
ولمزيد من التوسع في هذه المسألة، ينظر: السين العربية في ضوء لهجات شبه الجزيرة العربية .. دراسة لغوية موازنة"، د. فاطمة كاظم خضير: (59)، وما بعدها.
والله أعلم