الحمد لله.
أولًا:
علم الوقف والابتداء من العلوم المهمة لقارئ القرآن، قال أبو بكر الأنباري: "ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه: معرفة الوقف والابتداء فيه، فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام، والوقف الكافي الذي ليس بتام، والوقف القبيح الذي ليس بتام ولا كاف"، انتهى.
انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" (1/108).
وقال الأشموني: " ولا يقوم بهذا الفن إلَّا من له باع في العربية، عالم بالقراءات، عالم بالتفسير، عالم باللغة التي نزل القرآن بها على خير خلقه"، انتهى.
انظر: "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" (1/12).
وقال ابن الجزري: "ليس كل ما يتعسفه بعض المعربين أو يتكلفه بعض القراء، أو يتأوله بعض أهل الأهواء مما يقتضي وقفا وابتداء: ينبغي أن يُتعمد الوقف عليه، بل ينبغي تحري المعنى الأتم، والوقف الأوجه.
وذلك نحو الوقف على وارحمنا أنت، والابتداء مولانا فانصرنا على معنى النداء.
ونحو ثم جاءوك يحلفون ثم الابتداء بالله إن أردنا.
ونحو وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك ثم الابتداء بالله إن الشرك على معنى القسم.
... فإن ذلك وما أشبهه تمحل، وتحريف للكلم عن مواضعه، يُعرف أكثره بالسباق والسياق"، انتهى بتصرف من "النشر" (1/ 231-232).
وقد نبه ابن الجزري على قاعدة مهمة، فقال : "وقد يكون الوقف حسنًا والابتداء به قبيحًا، نحو: (يخرجون الرسول وإياكم) الوقف عليه حسن لتمام الكلام، والابتداء به قبيح لفساد المعنى، إذ يصير تحذيرا من الإيمان بالله تعالى.
وقد يكون الوقف قبيحًا والابتداء به جيدًا، نحو (من بعثنا من مرقدنا هذا) فإن الوقف على هذا قبيح عندنا، لفصله بين المبتدأ وخبره، ولأنه يوهم أن الإشارة إلى مرقدنا، وليس كذلك عند أئمة التفسير، والابتداء بـ (هذا) كاف أو تام؛ لأنه وما بعده جملة مستأنفة رد بها قولهم"، انتهى من
"النشر في القراءات العشر" (1/230).
فقد علمت من هذه النقول أن علم الوقف والابتداء يتعلق بالمعنى، كما يتعلق بالعربية، فلا يصح الوقف على ما يوهم معنى باطلًا، بل قد يحرم، ويأثم الفاعل إن قصد ذلك.
ثانيًا:
أما قوله تعالى: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) سورة الإنسان/31.
ذكر السمين الحلبي أوجه الإعراب في الآية، فقال: "قوله: والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ : منصوبٌ على الاشتغال بفعلٍ يُفَسِّرُه أعدَّ لهم من حيث المعنى، لا من حيث اللفظُ، تقديرُه: وعَذَّبَ الظالمين، ونحوُه: زيداً مَرَرْتُ به ، أي: جاوَزْتُ ولابَسْتُ. وكان النصبُ هنا مُختاراً لِعَطْف جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعليةٍ قبلَها، وهي قولُه: يُدْخِلُ.
وقرأ الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة والظَّالمون: رَفْعاً على الابتداءِ، وما بعده الخبرُ، وهو مرجوحٌ لعدم المناسبةِ.
وقرأ ابنُ مسعودٍ وللظالمين بلام الجرِّ. وفيه وجهان، المشهورُ: أَنْ يكونَ للظَّالمين متعلِّقاً ب أَعَدَّ بعده ويكونَ لهم تأكيدًا.
الثاني: وهو ضعيفٌ جداً أَنْ يكونَ مِنْ بابِ الاشغال، على أَنْ تُقَدِّر فعلاً مثلَ الظاهرِ، ويُجَرَّ الاسمُ بحرفِ جرٍّ. فنقول: بزيدٍ مررتُ به ، أي: مررتُ بزيدٍ مررتُ به.
والمعروفُ في لغة العربِ مذهبُ الجمهورِ، وهو إضمارُ فِعْلٍ ناصبٍ، موافقٍ للفعل الظاهرِ في المعنى. فإنْ وَرَدَ نحوُ بزيدٍ مَرَرْتُ به عُدَّ من التوكيدِ، لا من الاشتغالِ".
انتهى من "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون" (10/627).
وقد نص العلماء على عدم جواز الوقف على قوله (والظالمين)، قال الإمام "الداني": «وكذلك: يدخل من يشاء في رحمته هنا الوقف، ولا يجوز أن يوصل ذلك بقوله: والظالمين ، ويقطع على ذلك"، انتهى من "المكتفى في الوقف والابتدا" لأبي عمرو الداني: (3).
وقال الأشموني: "والظالمين» منصوب بمقدر، أي: وعذب الظالمين، ولا يجوز أن يكون معطوفًا على مَن، أي: يدخل من يشاء في رحمته، ويدخل الظالمين، أو وعذب الظالمين أعدَّ لهم، وتام على قراءة الحسن: والظالمون بالرفع"،
"منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" (2/384).
وحاصل ذلك:
أن الوقف على ( رحمته ) ، والبدء بـ ( والظالمين .. ): حسن، لا إشكال في معناه، ولا إعرابه.
وأما آية يوسف/17 : ( قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) ؛ فقد أجمع علماء التفسير أن قوله: (فأكله)، أي: أكله الذئب، وأن الأكل لا يتعلق بيوسف، فالآكل هو الذئب، وليس المعنى أن يوسف هو الآكل للمتاع.
وانظر: "منار الهدى في بيان الوقف" (1/361).
وبهذا يتبين غلط من وقف على (فأكله)؛ فإن هذا لم يقل به أحد من أهل العلم بالتفسير، ولا ذكروه في الوقوف في الآية؛ بل هو تحريف للكلم عن مواضعه.
ثالثًا:
من القواعد المهمة التي لا بد من معرفتها: أنه: ليس كل ما صح لغة صح تفسيرًا، واللغة مصدر من المصادر، وليست حاكمة على كل المصادر، ولا يجوز للإنسان أن يذكر كل محمل لغوي، ويقرره في كتاب الله تعالى دون أن يرجع إلى علماء التفسير وأهله، وبخاصة إذا أجمعوا على بطلان معنى من المعاني كما سبق ذكره.
بل "ولا يُتركُ المعنى المشهورُ والمتبادرُ، للَّفظةِ إلى معنىً غامضٍ غريبٍ إلَاّ بدليلٍ يدلُّ عليه، ولا يوجدُ هاهنا إلَاّ الاحتمالُ واستعمالُ اللُّغةِ، وليس ذلك كافياً في تركِ المشهورِ، إذ لو أُورِدتْ على الآيةِ كلَّ المحتملاتِ لاتَّسَعَ التَّفسير، ودخلَه كثيرٌ منَ الأقوالِ المرذولةِ".
"التفسير اللغوي للقرآن الكريم" (151).
وانظر في تقرير هذه المسألة: "التفسير اللغوي"، للدكتور مساعد الطيار(633)، و"الاستدلال في التفسير"، للدكتور نايف الزهراني (439).
والله أعلم.
تعليق