الحمد لله.
بولس ليس بنبي قطعا، لأن الوحي قد نفى وجود نبي بين عيسى عليه السلام وبين نبينا صلى الله عليه وسلم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى، الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365) واللفظ له.
بل هو من الأشخاص الذين ظهروا بعد زمن عيسى عليه السلام، وادعى انتسابه إلى دعوته، ثم اشتغل بالدعوة إلى النصرانية، ولا يعلم من أين استمد ما كان يدعو إليه.
قال محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى:
” في حكاية بدايته ونهايته : نعتمد على المصادر المسيحية وحدها، كسنتنا فيما أسلفنا من القول، حتى لا نتزيد عليهم، ولكي نعرض الرجل كما هو عندهم.
في سفر أعمال الرسل تفصيل لحياة بولس، وقد أخذت أعماله من ذلك السفر الشطر الأكبر. وقد جاء فيه أن مولده كان في طرسوس، وتربى في أورشليم، واسمه الأصلي شاول.
وهذا نص الفقرة الثالثة من الإصحاح الثاني والعشرين حكاية عنه: ” أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكة، ولكن ربيت في هذه المدينة ” (أورشليم).
ولقد جاء أنه من الفريسيين الذين يقولون إن هناك قيامة يشاركون فيها ملك المسيح في الدنيا…
ونجد كتاب المسيحية متفقين على أنه من اليهود…
ومهما يكن من أمر جنسه، فقد كان بولس هذا في صدر حياته من أشد أعداء المسيحية، وأبلغِهم كيدا لها، وأكثرِهم إمعانا في أذى معتنقيها، كما يدل على ذلك ما جاء في سفر الأعمال في مواضع كثيرة منه…
ولكن سفر الأعمال يقول إن ذلك الرجل الذي كاد للمسيحية هذا الكيد، وآذى أهلها ذلك الإيذاء، قد انتقل من الجبت والطاغوت إلى المسيحية فجأة، من غير مقدمات تقدمت ذلك الانتقال، ولا تمهيدات مهدت له…
ودخل بولس أو شاول في المسيحية، وحاول أن يتصل بتلاميذ المسيح، ولكنهم أوجسوا منه خيفة، ولم يصدقوا إيمانه، ولكن شهد له برنابا الذي حدثناك عنه بالإيمان، وما حدث له في الطريق…
ومن ذلك الوقت صار بولس القوة الفعالة، والحركة الدائبة في الدعاية للمسيحية، كما تدل على ذلك عبارات سفر الأعمال، وقد اصطحب في رحلاته برنابا، حتى اختلفا كما ذكرنا في الكلام على برنابا – فلما اختلفا افترقا.
وهناك نجد حلقة مفقودة، فلم يبين لنا سفر الأعمال على من تلقى مبادئ المسيحية التي أخذ يبشر بها، والتي دونها في رسائله الأربع عشرة، والتي يضيف إليها بعض الكتاب سفر الأعمال، وينسبه إليه بدل نسبته إلى لوقا؟ لم تبين لنا الكتب المسيحية على من تلقى مبادئ المسيحية؟ ولعلهم يعتقدون أنه ليس في حاجة إلى التلقي، لأنه انتقل من مرتبة الكافر المناوئ إلى مرتبة الرسل في المسيحية، صار ملهماً ينطق بالوحي في اعتقادهم، فلم يكن في حاجة إلى التعلم والدراسة، لأن الوحي كفاه مؤونة الدرس وتعبه.
لقد أخذ بولس في التطواف في الأقاليم ينشئ الكنائس، ويقوم بالدعاية ويلقي الخطب، وينشئ الرسائل، حتى كانت رسائله هي الرسائل التعليمية بما اشتملت عليه من مبادئ في الاعتقاد، وبعض الشرائع العملية.
وقد قالوا: إنه قتل في اضطهادات نيرون سنة 66 أو سنة 67 على الخلاف في ذلك ” انتهى. “محاضرات في النصرانية” (ص 71 — 74).
والذي عليه أهل التاريخ أن دعوته كانت قائمة على إفساد دعوة عيسى عليه السلام ، أي لم يكن مصلحا؛ بل مفسدا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق: عبد الله بن سبأ؛ فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية، وطلب أن يفسد الإسلام. كما فعل بولص النصراني الذي كان يهوديا، في إفساد دين النصارى ” انتهى. “مجموع الفتاوى” (28 / 483).
وقال محمد رحمت الله الهندي رحمه الله تعالى:
” كلام بولس على تقدير صحة النسبة إليه أيضا: ليس بمقبول عندنا؛ لأنه عندنا من الكاذبين الذين كانوا قد ظهروا في الطبقة الأولى، وإن كان مقدساً عند أهل التثليث، فلا نشتري قوله بحَبةٍ، والحواريون الباقون بعد عروج عيسى عليه السلام إلى السماء نعتقد في حقهم الصلاح، ولا نعتقد في حقهم النبوة، وأقوالهم عندنا كأقوال المجتهدين الصالحين محتملة للخطأ، وفقدان السند المتصل إلى آخر القرن الثاني ” انتهى. “اظهار الحق” (2 / 387).
وعلى ذلك؛ فرسائل بولس التي يجعلها النصارى من ضمن محتويات الإنجيل، أو ما يسمونه بالعهد الجديد: ليست وحيا من الله إليه، ولا يوجد دليل على أنها من العلم الذي جاء به عيسى عليه السلام، فهو لم يدركه، ولا يوجد له إسناد إليه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى، فهي أربعة أناجيل: إنجيل متى، ويوحنا، ولوقا، ومرقس، وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منها إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته.
وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ من أقواله، وأفعاله التي ليست قرآنا…
فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع، فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله، ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله.
وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به، فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به…
فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم تكن متواترة عنهم، ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة، لم يكن عندهم من العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين.
فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته، وفيها ما هو غلط عليه، بلا شك، والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب، فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم، لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه، ثم حَدث به بعد سنين كثيرة، فإن الغلط في مثل هذا كثير، ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها، لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ، والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا ” انتهى. “الجواب الصحيح” (3 / 21 – 27).
والله أعلم.
تعليق