الحمد لله.
من أخلاق المسلم أن يحمل تصرفات إخوانه المسلمين على أحسن المحامل، فلا يبادر إلى سوء الظن بمجرد الشبهات، فإن المسارعة إلى سوء الظن إثم.
قال الله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) الحجرات /12.
وإذا كان هذا الخلق قد أُمِر المسلم أن يعامل به عوام المسلمين، فكيف بأمهات المؤمنين اللواتي اختارهن الله سبحانه وتعالى زوجات لرسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الجنة؟!
فبسلامة القلب وطهارته يجب على المسلم أن يتعامل مع أخبار أمهات المؤمنين.
ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم (288) عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ: " أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِعَائِشَةَ، فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ إِنْ رَأَيْتَهُ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ، فَإِنْ لَمْ تَرَ نَضَحْتَ حَوْلَهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ".
فإذا نظر القارئ إلى هذا الخبر بسلامة قلب، فإنه لا يرى ما يسيء إلى أمنا عائشة رضي الله عنها.
فالخبر ليس فيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تبصره وهو يغسل في ثوبه، فليس فيه إلا أنه : ( أصبح يغسل ثوبه )، وعائشة رضي الله عنها لم تكن وحيدة في بيتها بل كانت لها جواري ويأتيها أقاربها، فربما رأته جارية فأخبرت عائشة رضي الله عنها، كما في الخبر الذي رواه الإمام مسلم بعد هذا الخبر.
حيث روى (290) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِهَابٍ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: " كُنْتُ نَازِلًا عَلَى عَائِشَةَ، فَاحْتَلَمْتُ فِي ثَوْبَيَّ فَغَمَسْتُهُمَا فِي الْمَاءِ، فَرَأَتْنِي جَارِيَةٌ لِعَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَيَّ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ بِثَوْبَيْكَ؟ قَالَ قُلْتُ: رَأَيْتُ مَا يَرَى النَّائِمُ فِي مَنَامِهِ، قَالَتْ: هَلْ رَأَيْتَ فِيهِمَا شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: فَلَوْ رَأَيْتَ شَيْئًا غَسَلْتَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَابِسًا بِظُفُرِي".
وأما تعليمها له هذا الأمر من أمر دينه فلا يعد من الخضوع في القول؛ لأنه من النصيحة في الدين، فكما يتفق جميع العقلاء على أنه لا حرج على المرأة أن تتكلم بأمور تخص عورتها إذا كان ذلك لمصلحة دنيوية كالكلام مع الطبيب مثلا، فالمصلحة الدينية أولى وقد أقر الشرع الكلام في ذلك.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِي مِنَ الحَقِّ، فَهَلْ عَلَى المَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ المَاءَ) رواه البخاري (6121)، ومسلم (313).
وبوّب عليه الإمام البخاري، فقال: "بَابُ مَا لاَ يُسْتَحْيَا مِنَ الحَقِّ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ".
قال ابن الملقّن رحمه الله تعالى:
" وقولها: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِي مِنَ الحَقِّ): يدل أنه لا يجوز الحياء عن السؤال في أمر الدين، وجميع الحقائق التي يعبد الله سبحانه عبادة بها، وأن الحياء في ذلك مذموم " انتهى من "التوضيح" (28 / 500).
وهذا الرجل على سفر وفي ضيافة قوم فغسل الثياب فيه حرج، فأرشدته إلى ما هو أخف عليه وبأنه يكفيه حكه، ولا يشترط غسل أثر المني. وراجع للأهمية جواب السؤال رقم: (170012).
ويحتمل أن هذا الثوب لأهل البيت وليس للضيف وغسله بطريقة أفسدته، كأن يكون أفسد لونه ونحو هذا، فأنكرت عليه، ويشير إلى هذا ما رواه أبو عوانة في "المستخرج" (2 / 330) عن همام بن الحارث قال: " نَزَلَ بعائِشَةَ ضيفٌ فأمَرَت له بِمِلْحَفَةٍ لها صَفراء، فَاحْتَلَمَ فيها فَاسْتَحْيَى أن يُرْسِلَ بها وفيها أَثَرُ الاحتلام، فَغَمَسَها في الماء ثم أرسل بها، فقالَتْ: لم أفسدتَ علينا ثوبَنا؟ إنما كان يكفيه أن يَفرُكَه بأُصْبَعِهِ، لربما فركتُهُ مِن ثوبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم- بأُصْبُعي".
والادعاء بأن هناك كثيرا من الرجال يكفونها تعليم الرجال أمر الطهارة، هذا الكلام سببه الجهل بواقع الناس في ذلك الوقت والجهل بطبيعة شريعة الإسلام.
فشريعة الإسلام لم تشرع كلها بالأقوال، بل كثير من أحكامها ثبتت بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباعه في أفعاله هذه.
قال الله تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب/21.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله...
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: ( لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً ) " انتهى. "تفسير ابن كثير" (6 / 391).
وعلماء الصحابة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم كثير منهم مات مبكرا في عصر الخلافة الراشدة، أو تفرقوا في الأمصار للمشاركة في الفتوحات أو لتعليم الناس، فاحتاج الناس في المدينة إلى علم عائشة رضي الله عنها فقد تأخرت وفاتها إلى أواخر خلافة معاوية رضي الله عنه، وكذا كان لها من العلم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ماليس عند غيرها، ولذا كان يسألها حتى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم (349) عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: ( اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ رَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنَ الدَّفْقِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ - أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ - إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ، فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ، قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ ... ).
وفي سؤال الصحابة لها عن أمور العشرة الزوجية والغسل والطهارة إجماع منهم على مشروعية تصرفها رضي الله عنها.
ثم ينبغي التنبه إلى أن أم المؤمنين عاشت فوق ستين سنة، ومثل هذه الحوادث يحتمل جدا أنها وقعت في أواخر حياتها رضي الله عنها.
والله أعلم.
تعليق