الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

كيف نفسر التشابه بين الصلاة في الزرادشتية والإسلام؟!

421237

تاريخ النشر : 05-04-2023

المشاهدات : 31152

السؤال

لماذا طريقة الصلاة ومواقيتها في الزرادشتية مشابهة للإسلام، وهذا و الزرادشتية أقدم بكثير من الإسلام؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

الزرادشتية: هي ديانة، أو فرع من الديانة المجوسية في بلاد الفرس.

وهي ديانة نشأت في إيران قبل ستمائة عام ق.م، ومؤسسها هو (زرادشت) الذي ثار على آلهة البراهمة والفيدية، ودعا إلى عبادة الإله الواحد: أهورا مازدا (الإله الحكيم) واشتهرت الزرادشتية بعد ذلك بالإيمان بإلهي الخير والشر وتقديس النار، خلافاً للزرادشتية الأولى، ومن مسمياتهم: المجوس، والمزدية أو المزدكية – وكتابهم المقدس هو: الأفستا أو الأبستاق. -

ووفقًا لمصادرهم فقد ولد زرادشت عام (660 قبل الميلاد)، ونحن إذا رجعنا إلى المصادر وجدنا أن أقدم كتابات هذه الديانة ترجع إلى القرن التاسع الميلادي؛ أي: بعد الإسلام، أو بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بـ 200 سنة تقريبًا.

فعلى الرغم من أن تاريخ الزردشتية قبل دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم، إلا أن مصادرهم قد كتبت بعد ظهور الإسلام بقرنين وزيادة.

وبعد أن ظهر الإسلام على دولة الساسانية، وهزم الفرس، وسيطر على بلاد فارس؛ كانت القوة والغلبة للإسلام، فالواقع أنهم كتبوا مصادرهم التي فيها وصف صلاتهم وعباداتهم، تحت ظل الإسلام، متأثرين بتعاليمه وشرائعه، والعادة أن المهزوم يقتبس من المنتصر الكثير.

وقد نص عدد من المراجع والدراسات على أن الزرادشتية أخذت من الإسلام، بعد أن سيطر الإسلام على دولة فارس، وعدلوا في دياناتهم ليقربوها إلى التوحيد، ليحاجوا أهل الديانات الأخرى وخصوصًا الإسلام.

وينظر في هذا كتاب: "إيران في عهد الساسانيين" تأليف:  أرثر كريستنسن ترجمة يحيي الخشاب ص 421.

ثانيًا:

يثير بعض الملاحدة وغير المسلمين شبهة متهافتة، خلاصتها أن الإسلام اقتبس من الديانة الزرادشتية بدليل التشابهات الواضحة والجلية التي نراها في بعض الروايات عن زرادشت وعن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك التشابه في التشريعات والأحكام، ويقتبسون في هذا السياق بعض النصوص الواردة في الكتب المقدسة عند الزرادشتيين كالأبِسْتاق أو المعروف بالأفيستا وكتاب " أردا ويراف نامه" و الحكايات المروية عن زرادشت..
 

ومن ذلك ما ترويه الأساطير الزرادشتية من أن "زرداشت اعتزل واعتكف في الكهوف والجبال للتأمل والعبادة، وفي أحد الأيام وبينما هو واقف على الشاطيء اذ أتاه رجل جميل الطلعه في ثياب لامعة، ويحمل بيده عصا يشع منها نور، مقبلا عليه. وانشرح صدره وأخبره الرجل أنه فوهو مانو -كبير الملاكئة ! وأخذه برحلة الى السماء، إلى الخالق ! "

وهذا يشابه ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان "يَأْتي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وهو التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا، حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ... الحديث" أخرجه البخاري(3)


وأيضا ما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال "بينما نحن عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم ذاتَ يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ شديدُ سوادِ الشعرِ، لا نرَى عليه أثرَ السفرِ ولا نعرفُه، حتَّى جلس إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم فأسند ركبتَه إلى ركبتِه ووضع كفَّيهِ على فخذِه... الحديث" أخرجه مسلم(8).

ومن ذلك قصة المنام الواردة في "أردا ويراف نامه"،  وهو نص ديني زرادشتي يروي رحلة الفيراف وهو شخص زرادشتي صالح، إلى العالم الآخر، وهي قصة تتشابه كثيرا مع رحلة الإسراء والمعراج للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها ذكر لتفاصيل كثيرة  شديدة التشابه، كالكلام عن أهل الأعراف، وأحوال أهل الجنة والنار، يستدل بها على وجود اقتباس بين القصتين...

كما يستدلون أيضا بوجود بعض التشابه في العبادات، كوجوب خمس صلوات على مدار اليوم عند الفجر والظهيرة، والعصر والمغرب، ومنتصف الليل، وكوجوب الزكاة على الأغنياء، وكذلك بعض العقوبات كقطع يد السارق وتحريم الزنى والربا، وكثير من الأمور التي يحرمها الإسلام والاعتقاد في اليوم الآخر، والثواب والعقاب، إلى غير ذلك مما يكتبه بعض الناس في هذا الموضوع..


والملاحظ بشدة أن عامة ما يكتب في هذا تُعزى مادته العلمية إلى بحث أو بحثين، ثم تتناقله الجوقة ودعاة الفكر والثقافة، بلا تحرير ولا تمييز، ولا تثبت ولا تأريخ.

والحقيقة أن الرد على ذلك من أبسط ما يكون.

ويمكن  تلخيص أهم وجوه الرد على ذلك فيما يلي:
(1) كل الكتب الدينية الزرادشتية الحالية، بلا استثناء: يعود تاريخها إلى فترة ما بعد الإسلام، فأقدمها، وهو الكتاب المقدس الزرادشتي الأفيستا: مر بمحنتين أولهما على يد الإسكندر الأكبر، حيث أحرق كل الكتب الزرادشتية تماما، واختفت من الوجود، حتى جُمع جزء منها يقدر بالثلث في العهد البارثي والساساني، قبل أن يفقد هذا الجزء مرة أخرى في القرن السابع بعد الميلاد، أثناء انتشار الإسلام في مناطق الزرادشتيين، حيث تفرق بعضهم في أنحاء البلاد، إذ لم تكن الزرادشتية في أفضل أحوالها مع توسع الإسلام وهيمنته على مناطق المجوس، وخصوصا في العهد الصفوي، وقد أنقذ من بقي على الزرادشتية في الهند التي كانت تحت الحكم الإسلامي لثمانية قرون = جزءا صغيرا من الأفيستا التي جُمعت بعد محنة الإسكندر المقدوني، غير أنهم حافظوا على كتمانها وصونها عن الأعين، في حيازة بعض رجال الدين حتى القرن السابع عشر، حيث بدأت الدراسات عن الزرادشتية تتوالى، وخرجت الأفيستا إلى النور بعد قرون طويلة من الكتمان، لا يُدرى ما فُعل بها من تحريف أو تبديل.

يقول د خليل عبد الرحمن في مقدمة ترجمة الأفيستا: "يتهم الزرادشتيون ألكسندر المقدوني بحرق أفيستا بعد غزوه إيران وکردستان. ثم جمعت أجزاؤها ثانية في العهدين البارثي والساساني، وقد كانت حينئذ مؤلفة من واحد وعشرين جزءأ، ثم فقدت ثانية أثناء انتشار الإسلام وغزوه مناطق الزرادشتيين في القرن السابع الميلادي، حيث هرب بعض الزرادشتيين من إيران متوجهين إلى الهند، ليحافظوا على ديانتهم وکتابهم المقدس، ولا يزال هناك من يعتقدون بالزرادشتية دينا لهم، هؤلاء الأبطال أنقذوا نارهم وما تبقى من أجزاء أفيستا، وهي أجزاء لم تبلغ ربع ما كان كتابهم عليه؛ وهو أربعة أجزاء فقط من أصل واحد وعشرين جزءأ.

نتيجة الاضطهاد الذي مارسه غلاة من المسلمين [كذا، ؟!] بحق الزرادشتيين، وحرص هؤلاء وکتمانهم على كتابهم، وسريتهم المطلقة، وعدم إيمانهم بالتبشير لديانتهم، فضلا عن عدم السماح لممثلي الديانات الأخرى باعتناق الزرادشتية، كل هذا أدى بأتربة النسيان أن تعلو فوق حروف أنيستا الذهبية من القرن السابع، ولغاية القرن السابع عشر الميلادي. بيد أن معلومات الرحالة الأوروبين عن الزرادشتيين أثارت شغف علماء وباحثين أوربيين، ودفعتهم بقوة إلى دراسة الزرادشتية التي بجلها رجال الدين المسيحيون، وهذا أدى بهم إلى البحث عن نقاط التقائها مع المسيحية؛ حيث ظهرت أولى ثار ذلك في سنة [1700م]" (أفستا, الكتاب المقدس للديانة الزرادتشية ,ص8, روافد لثقافة والفنون ,الطبعة الثانية 2008).

والخلاصة: أن النصوص الزرادشتية لا يمكن تأريخها بما قبل الإسلام، إلا بالنظر إلى أصل هذه النصوص، قبل أن يصيبها التحريف والضياع والتلاشي مرتين؛ إحداهما كانت بعد الإسلام.


(2) بعض هذه النصوص أصلا مرجح أنه مكتوب في فترة العصور الإسلامية المبكرة، واتخذ شكله النهائي في الفترة بين القرن التاسع والعاشر الميلادي، وهو "أردا ويراف نامه"  الذي جاءت فيه القصة الشبيهة بالإسراء والمعراج، وهو كتاب يرجح الباحثون أنه متأثر بالإسلام.

جاء في موقع الموسوعة الفارسية التابع لجامعة كولومبيا الأمريكية " The Ardā Wīrāz-nāmag، like many of the Zoroastrian works، underwent successive redactions. It assumed its definitive form in the 9th-10th centuries A.D.، as may be seen in the text’s frequent Persianisms، usages known to be characteristic of early Persian literature..... Some influences، transmitted through Islam، may have been exerted on the latter، but these remain to be fully demonstrated  "  )ARDĀ WĪRĀZ , Encyclopædia Iranica.. (
 

وترجمة هذا النقل: "خضع أردا ويراف نامه، مثله مثل العديد من النصوص الزرادشتية، للعديد من التعديلات والتنقيحات المتتالية، ويرجح أن صيغته النهائية كُتبت في القرن التاسع / العاشر بعد الميلاد حسبما تبينه الفارسية المستعملة في الكتاب، والاستخدامات المعروف أنها مما يميز الأدب الفارسي المتأخر.... بعض التأثيرات على الكتاب ربما تكون نُقلت عن طريق الإسلام، لكن لا يزال يعتين إثبات ذلك على نحو كامل".

وجاء في موقع المكتبة البريطانية المحتفظة بمخطوطة الكتاب:

" The revelations of Arda Viraz (‘righteous Viraz’)، or Viraf، as his name has been transcribed in Persian، were written in Pahlavi (pre-Islamic Persian) during the early Islamic period، and reflect a time of religious instability. The story is set in the reign of the founder of the Sasanian Empire، Ardashir I (r. 224-241 ) …. Although the story did not assume its definitive form until the 9th to 10 centuries AD   "
) Zoroastrian visions of heaven and hell, Asian and African studies blog (

وترجمة هذا النقل: "الكشف عن أردا ويراف "ويراف الصالح" أو فيراف -كما تم نسخ اسمه بالفارسية-، تم كتابته باللغة البهلوية (الفارسية قبل الإسلام) خلال فترة صدر الإسلام، ويتناول فترة عدم الاستقرار الديني، إذ تدور أحداث القصة في عهد مؤسس الإمبراطورية الساسانية أردشير الأول (حكم من 224 إلى 241م)... على الرغم من أن القصة لم تأخذ صيغتها النهائية حتى القرن التاسع .." /العاشر الميلادي.


فالواضح بجلاء أن الزرادشتية الحديثة هي التي اقتبست من الإسلام، وليس العكس، وهو ما يؤكده كتابة هذا الكتاب في فترات الإسلام المبكرة، وتنقيحه لمدة أربعة قرون بعد الإسلام، في حين أن القصة من المفترض أنها حدثت في القرن الثالث للميلاد؛ أي قبل انتشار الإسلام بنحو ثلاثة قرون.

 
(3) عامة ما يذكره القائلون بهذه الشبهة هو من الروايات والحكايات والأساطير، ولا يستند أي منها لمصدر تاريخي موثوق، وحتى ما يستند منها لنصوص دينية زرادشتية معترف بها: لا يوجد له سند صحيح يدعم نسبته لما قبل الإسلام، أو حتى ما بعد الإسلام، وإنما هي نصوص أخرجت في الثلاثة قرون الماضية للنور، بعدما تناوب رجال على دفنها لمئات السنين، ولا يدرى من كتبها ولا من نقلها، ولا صحة وموثوقية ما جاء فيها من عدمه.

وما كان هذا حاله؛ فإنه لا يخلو عادة من التلاعب والتبديل، وإلحاق ما ليس منها فيها، فكيف يكون لما هذا حاله حجة وسلطان على نصوص الوحي الإسلامي، التي تأتي في مقدمة النصوص التاريخية ثبوتا وموثوقية، ولدينا سجلات وبيانات مفصلة عن كل ما يتعلق بها، وبأوقاتها وبسياقها وظروفها، وبمن نقلها وبمن كتبها؟!

فكل هذه النصوص والروايات التي يستدلون بها على شبهتهم لا تصمد لحظة واحدة، أمام أضعف حديث إسلامي في المسألة، إذا ما حاولنا الترجيح بين الأصيل والمنحول.


(4)  كيف يمكن أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم الرجل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، العربي الذي لا يعرف لغات الأعاجم، المكي الذي لم يكن له أسفار في طلب العلم؛ كيف يمكنه أن يجمع كل هذه الثروة المعرفية، منقطعة النظير، من شتى الأديان والثقافات؟

إن نبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ابن بيئته، ولم يذكر أحد حتى من خصوم الإسلام زمن النبوة أنه كان يسافر، أو كان يطالع أخبار الديانات القديمة، وكتبها، فكيف إذن سيقتبس منها؟

قال الله تعالى في الرد على أعدائه المكذبين، الباهتين: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ العنكبوت/48.

وهذه الحجة قوية جدًا، وهي الحكمة من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أميًا، لا نظر له في كتب وأحوال وأخبار السابقين، فدعوى أنه اقتبس رسالته من ديانات سابقة، هي دعوى يدحضها حاله عليه الصلاة والسلام، وهي الحال المتفق عليها، التي لا ينكرها حتى أعداء النبي عليه الصلاة والسلام.

ولما قال كفار قريش للنبي إنما يعلمه بشر، لأنهم يعلمون أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة؛ رد عليهم الله تعالى فريتهم، فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ النحل/103..

أي إنه يُفترض أن يكون هذا البشر أعجميا، لأنه في هذا الوقت لم يكن هناك كتب مترجمة للعربية من هذه الحضارات والديانات، وأنتم يا كفار قريش لا ترون حولكم أعجميًا يعلم محمدًا عليه الصلاة والسلام؛ فمن هذا البشر؟ وكيف يكون شأنه؟!

وأيضًا فلم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام التقى بأحد من هذه الحضارات والديانات، فمن أين جاءت هذه المعلومات؟

فهل اقتبس النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود؟ أم اقتبس عن النصارى؟ أم اقتبس عن المجوس؟ أم اقتبس عن أرسطو وفلاسفة اليونان؟ أم اقتبس عن حكماء الرومان؟ أم عن غير هؤلاء جميعا؟

لطالما ادعى غير المسلمين أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم انتحل هذه القصة من هنا، وهذا التشريع من هناك، وهم يريدون تكذيبه، وما يزيدنا فعلهم إلا تصديقا وإيمانا برسالته فهذا مما يثبت نبوته ويؤكدها إذ لو كانت احتمالية نقله واقتباسه عن دين من الأديان أضعف ما يكون لاعتبارات اللغة، حيث كانت كتب ومعارف الأديان بغير العربية، ولأجل أمّية النبي صلى الله عليه وسلم وعدم قدرته على القراءة والكتابة بالعربية فضلا عن اللغات الأخرى، وعدم توافر مصادر التعلم والدراسة،  واستئثار رجال الدين بكل مصادر المعرفة الدينية واحتكارهم لها، وعدم إمكانية الحصول على معرفة مفصلة إلا من خلال الانتظام في سلك كهنوتي، أو علمائي معين، يستغرق سنين وعقودا، فضلا عن وجود اختلافات كبيرة وجذرية  = فإن احتمالية نقله واقتباسه عن كله هذه الأديان والثقافات مجتمعة أبعد وأبعد بل هو مستحيل عند من أنصف.
يقول الدكتور دراز رحمه الله: "هل كان في العلماء يومئذ من يصلح أن تكون له على محمد صلَّى اللهُ عليه وسلم وقرآنه تلك اليد العلمية؟ يقول الملحدون أنفسهم: "إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل".

وهذه كلمة حق في حدود معناها الصحيح، فنحن نأخذهم باعترافهم، وندعوهم إلى استجلاء تلك الصورة التي حفظها القرآن في مرآته الناصعة، مثالا واضحا لعلماء عصره.

فيقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ وما فيهما من المحاورة لعلماء اليهود والنصارى في العقائد والتواريخ والأحكام، أو ليقرأوا ما شاءوا من السور المدنية أو المكية التي فيها ذكر أهل الكتاب، ولينظروا بأي لسان يتكلم عنهم القرآن، وكيف يصور لنا علومهم بأنها الجهالات، وعقائدهم بأنها الضلالات والخرافات، وأعمالهم بأنها الجرائم والمنكرات....

ولنعد مرة أخرى فنسأل: هل كان علم العلماء يومئذ مبذولا لطالبيه، مباحا لسائليه؟ أم كان حرصهم على هذا العلم أشد من حرصهم على حياتهم، وكانوا يضنون به حتى على أبنائهم استبقاء لرياستهم، أو طمعا في منصب النبوة الذي كانوا يستشرفون له في ذلك العصر...

ونعود للمرة الثالثة، فنقول لمن يزعم أن محمدا صلَّى اللهُ عليه وسلم كان يعلمه بشر: قل لنا ما اسم هذا المعلم! ومن ذا الذي رآه وسمعه؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟

فإن كلمة "البشر" تصف لنا هذا العالم الذين يمشون على الأرض مطمئنين؛ ويراهم الناس غادين ورائحين، فلا تسمع دعواها بدون تحديد وتعيين، بل يكون مثل مدعيها كمثل الذين يخلقون لله شركاء لا وجود لهم إلا في الخيال والوهم. فيقال له كما قيل لهم: قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول.
بل نقول: هل ولد هذا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلم في المريخ، أو نشأ في مكان قصي عن العالم، فلم يهبط على قومه إلا بعد أن بلغ أشده واستوى، ثم كانوا بعد ذلك لا يرونه إلا لماما؟ ألم يولد في حجورهم؟ ألم يكن يمشي بين أظهرهم يصبحهم ويمسيهم؟ ألم يكونوا يرونه بأعينهم في حله ورحيله؟ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون

نعم؛ إن قومه قد طوعت لهم أنفسهم أن يقولوا هذه الكلمة: إنما يعلمه بشر، ولكن هل تراهم كانوا في هذه الكلمة جادين، وكانوا يشيرون بها إلى بشر حقيقي عرفوا له تلك المنزلة العلمية؟ كلا؛ إنهم ما كان يعنيهم أن يكونوا جادين محقين، وإنما كان كل همهم أن يدرءوا عن أنفسهم معرة السكوت والإفحام، بأية صورة تتفق لهم من صور الكلام: بالصدق أو بالكذب، بالجد أو باللعب. وما أدراك من هو ذلك البشر الذي قالوا: إنه يعلمه؟ أتحسب أنهم اجترأوا أن ينسبوا هذا التعليم لواحد منهم؟ كلا؛ فقد رأوا أنفسهم أوضح جهلا من أن يعلموا رجلا جاءهم بما لم يعرفوا هم ولا آباؤهم.

أم تحسب أنهم لما وجدوا أرض مكة مقفرة من علماء الدين والتاريخ في عهد البعثة المحمدية عمدوا إلى رجل من أولئك العلماء في المدينة أو في الشام أو غيرهما فنسبوا ذلك التعليم إليه؟ كلا؛ إن ألسنتهم لم تطاوعهم على النطق بهذه الكلمة أيضا. فمن ذا، إما لا... ؟

لقد وجدوا أنفسهم مضطرين أن يلتمسوا شخصا يتحقق فيه شرطان: أحدهما: أن يكون من سكان مكة نفسها، لتروج عنهم دعوى أنه يلاقيه ويملي عليه بكرة وأصيلا. وثانيهما: أن يكون من غير جلدتهم وملتهم، ليمكن أن يقال: إن عنده علم ما لم يعلموا.

وقد التمسوا هذ الأوصاف فوجدوها، أتدري أين وجدوها؟ في حداد رومي!! نعم، وجدوا في مكة غلاما تعرفه الحوانيت والأسواق، ولا تعرفه تلك العلوم في قليل ولا كثير، غير أنه لم يكن أميا ولا وثنيا مثلهم، بل كان نصرانيا يقرأ ويكتب، فكان من أجل ذلك خليقا - في زعمهم - أن يكون أستاذا لمحمد صلَّى اللهُ عليه وسلم، وبالتالي أستاذا لعلماء اليهود والنصارى والعالم أجمعين، ولئن سألتهم هل كان ذلك الغلام فارغا لدراسة الكتب وتمحيص أصيلها من دخيلها، ورد متشابهها إلى محكمها، وهل كان مزودا في عقله ولسانه بوسائل الفهم والتفهيم؟ ..

لعرفت أنه كان حدادا منهمكا في مطرقته وسندانه، وأنه كان عامي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني، أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد ولا أحد من قومه، لكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب الأستاذية الذي منحوه إياه؛ على رغم أنف الحاسدين!.." النبأ العظيم, محمد عبد الله دراز,88: 94

(5) لو كان مجرد وجود تشابه بين الإسلام والزرادشتية دليلا على أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم اقتبس عن هذا الدين؛ فإن التشابه بين الإسلام واليهودية والنصرانية والحنيفية أكثر بكثير، ونحن نقر بتشابهنا مع أهل الكتاب في أصل الاعتقادات، وكثير من الشرائع والقصص؛ ولكن هذا لا تقوم به أية حجة علينا؛ لأننا نقر أن لهذه الأديان أصولا صحيحة منزلة من عند الله، فما توافق فيها مع ما جاء في الإسلام إنما هو مما بقي عندهم من الحق. قال الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا : ( قل مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ) .

والزرادشتية ترجع أصولها لدين سماوي، وفي أحد قولي العلماء هم أهل كتاب في الأحكام تؤخذ منهم الجزية، وتنكح نساؤهم. وروي عن حذيفة أنه تزوج مجوسية. وهذا خلاف مذهب الجمهور، وفي الحديث الذي أرسل عن عدد من الصحابة  عن المجوس: ( سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتابِ )، وهو ضعيف، ويغني عنه ما جاء في البخاري(5828) عن المصعب بن زبير وفيه "أتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بسَنَةٍ: فَرِّقُوا بيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوسِ، ولَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ، حتَّى شَهِدَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَخَذَهَا مِن مَجُوسِ هَجَرَ".

 
وقد ثبت في فتح تُستر أن المسلمين عثروا على جسد النبي دانيال عليه السلام، فدفنه المسلمون وأعموا الناس عن قبره لئلا يُفتن به أحد.

فقد روى بن أبي شيبة (7/4) عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُمْ لَمَّا فَتَحُوا تُسْتَرَ قَالَ: "فَوَجَدَ رَجُلًا أَنْفُهُ ذِرَاعٌ فِي التَّابُوتِ، كَانُوا يَسْتَظْهِرُونَ وَيَسْتَمْطِرُونَ بِهِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالنَّارُ لَا تَأْكُلُ الْأَنْبِيَاءَ، وَالْأَرْضُ لَا تَأْكُلُ الْأَنْبِيَاءَ، فَكَتَبَ أَنِ انْظُرْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي مُوسَى، فَادْفِنُوهُ فِي مَكَانٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُكُمَا. قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو مُوسَى فَدَفَنَّاهُ".

وروى ابن أبي شيبة(7/4)  أيضا عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: " شَهِدْتُ فَتْحَ تُسْتَرَ مَعَ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: فَأَصَبْنَا دَانْيَالَ بِالسُّوسِ، قَالَ: فَكَانَ أَهْلُ السُّوسِ إِذَا أَسَنُّوا، أَخْرَجُوهُ فَاسْتَسْقَوْا بِهِ، وَأَصَبْنَا مَعَهُ سِتِّينَ جَرَّةً مُخَتَّمَةً... "

وروى اليهقي في "دلائل النبوة" (1/381)عَنْ خالد بن دينار عن أبي الْعَالِيَةِ قَالَ: "لَمَّا افْتَتَحْنَا تُسْتَرَ وَجَدْنَا فِي بَيْتِ مَالِ الْهُرْمُزَانِ سَرِيرًا عَلَيْهِ رَجُلٌ مَيِّتٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مُصْحَفٌ لَهُ، فَأَخَذْنَا الْمُصْحَفَ، فَحَمَلْنَاهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عَنْهُ، فَدَعَا لَهُ كَعْبًا فَنَسَخَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَرَأَهُ، قَرَأْتُهُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ الْقُرْآنَ هَذَا"!!

فَقُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: مَا كَانَ فِيهِ؟ فَقَالَ: "سِيرَتُكُمْ، وَأُمُورُكُمْ، وَدِينُكُمْ، وَلُحُونُ كَلَامِكُمْ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدُ ".

قُلْتُ: فَمَا صَنَعْتُمْ بِالرَّجُلِ؟ قَالَ: "حَفَرْنَا بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا مُتَفَرِّقَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ دَفَنَّاهُ وَسَوَّيْنَا الْقُبُورَ كُلَّهَا، لِنُعَمِّيَهُ عَلَى النَّاسِ، لَا يَنْبُشُونَهُ".

فَقُلْتُ وَمَا تَرْجُونَ مِنْهُ؟

قَالَ: "كَانَتِ السَّمَاءُ إِذَا حُبِسَتْ عَلَيْهِمْ، بَرَزُوا بِسَرِيرِهِ، فَيُمْطَرُونَ".

قُلْتُ: مَنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ الرَّجُلَ؟

قَالَ: "رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: دَانْيَالُ".

فَقُلْتُ : مُذْ كَمْ وَجَدْتُمُوهُ مَاتَ؟

قَالَ: "مُذْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ".

فَقُلْتُ: مَا كان تغيّر شيئا؟

 قَالَ:" لَا، إِلَّا شُعَيْرَاتٌ مِنْ قَفَاهُ، إِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُبْلِيهَا الْأَرْضُ، وَلَا تَأْكُلُهَا السِّبَاعُ".


وكلها ذلك ثابت صحيح ولعل المدة المذكورة في رواية أبي العالية تقديرية، لأن النبي دانيال اقتيد إلى بلاد الرافدين في السبي البابلي، قبل ستة قرون من ميلاد المسيح عليه السلام، ما يعني أن المدة بين فتح تستر وموت النبي دانيال عليه السلام لا تقل عن 12 قرنا..
والشاهد أن الزرادتشيين كانوا يعظمون نبيا من أنبياء الله، وقد أجمعت المصادر التاريخية على أن أصل دعوة زرادشت توحيدية، هدفت لإصلاح الوضع الديني، وإنهاء تعدد الآلهة الذي ساد في الديانة الإيرانية القديمة، لكن لا يوجد لدينا علم كاف يتيح لنا القطع بكونه نبيا أم لا.
فإذا كان هذا هو الحال، وكان الزرادشتيين يعظمون بعض الأنبياء الذين يعظمهم الإسلام، فمن الطبيعي أن يوجد في دينهم اعتقادات وتشريعات وقصص تتشابه مع قصص القرآن، لوحدة المصدر الإلهي، كما تتشابه اليهودية والنصرانية والحنيفية مع الإسلام، بل إن وحدة المصدر تعين وتوجب وجود تشابه، إذ إن انعدام التشابه بشكل مطلق، هو الذي يثير الريبة والشبهة!!

إلا أن طروء الشرك والعقيدة الثنوية على المجوس، وضياع كتبهم تماما، ولأكثر من مرة = جعل الزرادشتية أبعد هذه الأديان عن الإسلام، لكن لا يمنع هذا من بقاء بعض الأصول المشتركة خصوصا، مع غزو الإسلام لمناطقهم، مما يعزز إمكانية حصول التأثر بالإسلام في إعادة النظر في الفكر الديني الزرادشتي.

أمر أخير: أن الدين الحق الذي أوحى الله به لأنبيائه منذ نزول آدم على الأرض؛ سابق لهذه الديانات كلها، وما من حضارة أو دين محرف من هذه، إلا وقد أرسل في أمته نبي، أو كان فيها بقايا دعوة نبي مصداقًا، لقوله سبحانه: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير{ فاطر/24.

فالأقرب من الناحية المنطقية: إن لم تكن الزردشتية اقتبست من الإسلام كما سبق وشرحنا؛ أن تكون هذه التوافقات بين الزردشتية أو غيرهم من أهل الديانات السابقة؛ مأخوذة من بقايا دين حق أوحى الله به لهذه الأمم، وبالتالي فالإسلام هو امتداد لرسالات الأنبياء، وهو الرسالة الخاتمة للوحي الإلهي الذي أوحى الله به للأنبياء ليبلغوه للأمم عبر القرون.

ويتقوى هذا بما تقدم؛ من أنه، وفي حالة الزردشتية تحديدًا: أتيحت الفرصة ، بقوة، وفي أكثر من مرة ، لأن يكون علماؤهم وكهنتهم قد اقتبسوا من الإسلام؛ وليس العكس.

وحينها؛ فالتشابهات بين الإسلام والديانات هي في الحقيقة نتاج وجود مصدر إلهي واحد ومشترك بينها، ولذلك يوجد توافقات بين الإسلام، وكتاب اليهود والنصارى المقدس، رغم تحريفه؛ لأنه رغم التحريف، توجد فيه بقايا من الدين الحق، ويوجد مصدر إلهي واحد لهذه البقايا من الدين الحق وللإسلام، وهذا المصدر الإلهي هو سبب وجود التشابهات.

والله سبحانه لم يرسل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام برسالة منفصمة ومنفصلة عن رسالات الأنبياء جميعا، بل رسالة نبينا مكملة ، ومتممة ، ومهيمنة على الرسالات السابقة ، وليست منفصلة عنها انفصالا معرفيا تاما.

ونرجو أن يكون في هذا الجواب الكشف التام عن وهاء هذه الشبهة.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب