الحمد لله.
هناك مجموعة من الظواهر اللغوية الصوتية التي نقلت عن بعض العرب، ولم تطرد في لغة الاستعمال، لكونها خرجت عن الأصل الموضوع لها في النطق.
وقد عرفت هذه اللهجات بمجموعة من المصطلحات اللغوية التي عرفت بالألقاب اللهجية.
وقيل: إن أقدم خبر في تلقيب العربية القديمة هو، ما رواه الجاحظ في كتابه "البيان والتبين" من أن رجلاً جَرْميّا - لم تذكر المصادر اسمه - كان في مجلس معاوية، حين قال معاوية:
"من أفصح الناس؟
فقال قائل: قوم ارتفعوا عن "لخلخانية" الفرات، وتيامنوا عن "كشكشة" تميم، وتياسروا عن "كسكسة" بكر؛ ليست لهم "غمغمة" قضاعة، ولا "طُمطمانية" حمير.
قال: من هم؟
قال: قريش.
قال: ممن أنت؟
قال: من جَرْم". انتهى، من "البيان والتبين" ط عبد السلام هارون (3/212-213). وانظر شرح المصطلحات المذكورة في حواشي تحقيقه.
وزادت بعض الروايات:
تلتلة بهراء، تضجع قيس، عجرفية ضبة، كشكشة هوازن، عجعجة قضاعة.
والطمطانية، لغة: هي العُجمة؛ لأن الطُمطماني، والطُّماطم، والطمطمي، والطُّمطِم هو الأعجم. يُنْظَر "لسان العرب" (12/371).
قال السيد مرتضى الزبيدي، رحمه الله: " وطُمْطُمَانِيَّةُ حِمْيَرَ، بالضَّمِّ: مَا فِي لُغَتِها من الكلِماتِ المُنكَرَةِ) ، تَشْبِيهًا لَهَا بِكلامِ العَجَمِ.
وَفِي صِفَة قُرَيْش: (لَيْسَ فِيهِم {طُمْطُمَانِيَّةُ حِمْيَرَ)، أَي: الأَلْفَاظُ المُنْكَرَةُ المُشَبَّهَةُ بكَلامِ العَجَم، هكَذا فَسَّرَهُ غَيرُ واحِدٍ من أئِمَّةِ اللُّغَةِ، وصَرَّح بِهِ المُبَرِّدُ فِي الكامِلِ، والثَّعَالِبيُّ فِي المُضَافِ والمَنْسُوبِ.
وَقيل: هُوَ إبدالُ اللاَّمِ مِيمًا، وأشارَ إِلَى توْجِيهِ ذَلِك الزَّمخشَرِيُّ فِي الفائِقِ". انتهى، من "تاج العروس" (33/27).
والطُّمْطُّمانية، بالمعنى الاصطلاحي في الظواهر اللغوية والصوتية: هي إبدال اللام في أداة التعرف "الـ"، ميما، ولم تزل هذه اللهجة منتشرة، متداولة إِلى يومنا هذا، وبكثرة، وعلى نطاق واسع، وتنسب الطمطمانية إِلى قبائل منها:
"طي، والأزد، وحمير، ودوس وقبائل جنوب جزيرة العرب، وبعض قبائل اليمن"؛ فهم يقولون:
(طاب امهواء)، و(صفا امجو)؛ يريدون: طاب الهواء، وصفا الجو.
يُنْظَر "فقه اللغة وسر العربية" (ص127).
وقد روي عن بجير بن عنمة الطائي -أحد بني بولان- قوله:
ذاكَ خَلِيلِي، وذُو يُواصِلُنِي * يَرْمِي ورائِي بِامْسَهْمِ وامْسَلِمَهْ
يُنْظَر "مغني اللبيب" (1/48).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً من أهل اليمن سأله: (هل من امبر امصيام في امسفر؟).
فرد عليه صلى الله عليه وسلم: (ليس من امبر امصوم في امسفر).
وهذا الحديث أخرجه أحمد في المسند (5/434) قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من امبر امصيام في امسفر).
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(19/172) من طريق عبد الله بن أحمد، عن أبيه به، وأخرجه البيهقي في "السنن"(4/242) من طريق عبد الرزاق به. وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات.
ولكن الحديث أخرجه أحمد أيضا (23681)، من طريق سفيان عن الزهري بلفظ: (ليس من البر الصيام في السفر).
وكذلك أخرجه (23680) من طريق ابن جريج بلفظ سفيان.
وأخرجه أحمد (15282)، (14426)، والبخاري (1946)، وأبو داود (2407)، والترمذي (710)؛ جميعهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، بلفظ: (ليس من البر الصيام في السفر).
وقد قيل: عن الحديث متواتر بهذا اللفظ، يعني: بالألف واللام، على الجادة.
وحكم العلماء على اللفظ الأول بالشذوذ، ومن هؤلاء الشيخ الألباني رحمه الله في "الضعيفة" (1130).
وعلى فرض صحته باللفظ المذكور، وفق هذه اللهجة؛ فقد قال ابن حجر رحمه الله في "التلخيص الحبير" (2/205): "وَهَذِهِ لُغَةٌ لِبَعضِ أَهلِ اليَمَنِ، يَجعَلُونَ لَامَ التَّعرِيفِ مِيمًا، وَيَحتَمِلُ أَن يَكُونَ النَّبِيٌّ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَ بِهَا هَذَا الأَشعَرِيَّ كَذَلِكَ، لِأَنَّهَا لُغَتُهُ، وَيَحتَمِلُ أَن يَكُونَ الأَشعَرِيٌّ هَذَا نَطَقَ بِهَا عَلَى مَا أَلِفَ مِن لُغَتِهِ، فَحَمَلَهَا عَنهُ الرَّاوِي عَنهُ، وَأَدَّاهَا بِاللَّفظِ الَّذِي سَمِعَهَا بِهِ، وَهَذَا الثَّانِي أَوجَهُ عِندِي، وَاَللَّهُ أَعلَمُ".
والحاصل:
أن المحفوظ في هذا الحديث من لفظ النبي الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قاله : ( البر ) على الجادة، وعلى لغة قريش وغيرها من العرب، وأن الراجح أن كلمة "امبر" ليست محفوظة بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا قدر أنه قالها كذلك، فإنما قالها مجاراة لهذا اليمني في لغته، وهذا من كريم خلقه، وتلطفه صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم
تعليق