الحمد لله.
روى البخاري (6587) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ القَهْقَرَى. ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ، قُلْتُ أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ القَهْقَرَى، فَلاَ أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ.
هذا الحديث ليس فيه ما يدعيه الشيعة الرافضة من ردّة معظم الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث لم يرد فيه ذكر الصحابة، بل هو مطلق: ( بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ )، والحوض ليس خاصا بالصحابة رضوان الله عليهم بل يرده كل من ينتسب إلى أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من يوم بعث إلى قيام الساعة.
ولم يرد فيه أنه يعرف أفراد هذه الزمرة بسبب أنه رآهم في حياته وصحبوه، بل أطلق صفة المعرفة: ( حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ )؛ والنبي صلى الله عليه وسلم سيعرف كل من يرد عليه الحوض من أمته، ولو لم يصحبوه في حياته وذلك بعلامة تكون فيهم، قد بيّنها حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ، قَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلَا يَصِلُونَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي. فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ، فَيَقُولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ رواه مسلم (247).
وقوله صلى الله عليه وسلم: حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ .
أي يخرج ملك من الملائكة فيمنعهم من ورود الحوض.
وقوله صلى الله عليه وسلم: فَلاَ أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ.
أي أفراد هذه الزمر لا يرد منهم الحوض إلا القليل منهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله: ( فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ) يعني من هؤلاء الذين دنوا من الحوض وكادوا يردونه، فصُدُّوا عنه.
والهمل بفتحتين الإبل بلا راع، وقال الخطابي: الهمل ما لا يرعى ولا يستعمل ويطلق على الضوال.
والمعنى أنه لا يرده منهم إلا القليل؛ لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره " انتهى من "فتح الباري" (11 / 474 - 475).
ثم الواقع لا يدل على ما يدعيه هؤلاء الرافضة، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاهدوا معه وأخذوا عنه الوحي والعلم ونقلوه لمن بعدهم، لم يرتد منهم أحد كما هو معلوم، بل هم الذين قاتلوا المرتدين من الأعراب ومن بعض قبائل العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يتركوهم حتى أعادوهم إلى دائرة الإسلام، ثم بذلوا بعد ذلك مهجهم في نشر دين النبي صلى الله عليه وسلم بين الأمم، فكيف لعاقل أن يحكم بالردة على هؤلاء الذين بذلوا مهجهم وأموالهم وأوقاتهم في الدعوة إلى الإسلام والتمكين له؟!
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" ولم يُرد به خواص أصحابه الذين لزموه وعُرفوا بصحبته، فقد صانهم الله وعصمهم من التغيير والتبديل.
وليس معنى الارتداد على الأعقاب: الرجوع عن الدين والخروج عن الملة، إنما هو التأخر عن بعض الحقوق، والتقصير فيها.
ولم يرتد أحد من الصحابة بعده والحمد لله، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب مثل عيينة بن حصن جيء به أسيرا إلى أبي بكر، فجعل ولدان المدينة يطعنون في كَشحه ويقولون له: ارتددت، فكان يقول: ما ارتددت ولم أكن أسلمت، وجيء بالأشعث بن قيس فأطلقهما ولم يسترقهما، وإنما كان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم، ممن لا بصيرة لهم بالدين ولا معرفة لهم بأحكامه، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين، رضوان الله عليهم أجمعين " انتهى من "أعلام الحديث" (3/1843).
ثم الصحابة قد ورد تعديلهم في كتاب الله تعالى بنصوص قاطعة تتلى في أقطار الأرض إلى قيام الساعة شاهدة لهم بالإيمان.
كقول الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا الفتح/18.
وكقول الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا الفتح/29.
وكقوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الحشر/8 – 9.
وقد نصت السنة الثابتة على أسماء صحابة أنهم من أهل الجنة بنصوص واضحة صريحة، بينما الرافضة يحكمون عليهم بالردة؛ فمن يترك هذه النصوص الصريحة المحكمة، ويبحث عن المشتبهات فقد حكم عليه القرآن بأنه من أهل الضلال والزيغ، وهذا في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ آل عمران/7.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ... .
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ رواه البخاري (4547)، ومسلم (2665).
وراجع للأهمية جواب السؤال رقم: (125919).
والله أعلم.
تعليق