210

متى يرخص بضرب الوجه؟

السؤال: 438172

رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه:
قال أبو القاسم ﷺ: «من اطّلع عليك بغير إذنك، فخذفته بعصا فأصبتَ عينه، فلا حرج عليك».
(المعنى) رُوي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه:
أن رجلًا اطّلع في بعض حجر النبي ﷺ، وكان النبي ﷺ حينئذٍ يحكّ رأسه بمِدْرَى (وهو مِشط من حديد)، فقال ﷺ:
«لو أعلم أنك تنظر لطعنتُ به في عينك، إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر».
(المعنى – متفق على أصله) سُنن النسائي (رقم ٤٠٣٩):
رُوي عن هشام، عن أبيه، قال:
إن أناسًا أغاروا على إبل رسول الله ﷺ، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسُمِلَت (فُقِئَت) أعينهم.
(المعنى)
السؤال:
هل هذه الأحاديث كلّها صحيحة؟
وهل يدلّ ذلك على أنّ العينين غير داخلتين في النهي الوارد عن ضرب الوجه؟
وبناءً على ذلك، هل يجوز للمسلم أن يضرب أو يفقأ عيني من يعتدي عليه، أو يحاول سرقته، أو يسعى إلى قتله، ونحو ذلك؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولا:

حديث النهي عن ضرب الوجه ثابت صحيح.

روى البخاري (2559) ومسلم (2612) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ).

وهذا النهي يعم جميع الأحوال كما تدل عليه بعض رواياته، وكذا مفهومه.

قال العراقي رحمه الله تعالى:

" قد يقال إن قوله: (قاتل) بمعنى قتل، وإن المفاعلة هنا ليست على ظاهرها، بل هي مثل عاقبت اللص. ويدل لذلك قوله في الرواية الأخرى: ( إذا ضرب )، وقوله في الرواية الأخرى: ( فلا يلطمن الوجه ).

وقد يقال: هي على بابها، والمراد أنه إذا حصلت مقاتلة من الجانبين، ولو في دفع صائل ونحوه: يتقي وجهه، فما ظنك بما إذا لم يقع من الجانب الآخر ضرب؛ فهو أولى بأن يتقي الوجه؛ لأن صاحب المدافعة قد تضطره الحال إلى الضرب في وجهه، ومع ذلك فنُهي عنه؛ فالذي لا يدافعه المضروب أولى بأن يؤمر باجتناب الوجه "طرح التثريب" (8 / 16).

والوجه يتناول العين؛ لأنها منه، ولفظ "الوجه" في الحديث قد أطلق، ولم يقيد بجزء منه، فيعم الحكم جميع أجزائه.

ولأن الحكمة من النهي عن ضرب الوجه تشمل العين.

قال النووي رحمه الله تعالى:

" قال العلماء: هذا تصريح بالنهي عن ضرب الوجه، لأنه لطيف يجمع المحاسن وأعضاؤه نفيسة لطيفة وأكثر الإدراك بها فقد يبطلها ضرب الوجه وقد ينقصها وقد يشوه الوجه، والشين فيه فاحش؛ لأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره، ومتى ضربه لا يسلم من شين غالبا " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (16 / 165).

بل ذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى في ضرب الوجه، هو صيانة العين عن التلف.

قال الجصاص، رحمه الله: "ووجه آخر وهو أنه ممنوع من ‌ضرب ‌الوجه لما يخاف فيه من الجناية على البصر". انتهى، من "أحكام القرآن للجصاص" (5/ 102).

ثانيا:

الأحاديث الواردة في جواز إلحاق الأذى بأعين بعض المعتدين، هي نصوص ثابتة متفق عليها.

حيث روى البخاري (6802) ومسلم (1671) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ، فَأَسْلَمُوا، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا فَارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا، وَاسْتَاقُوا الإِبِلَ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا".

وروى البخاري (6902) ومسلم (2158) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ ).

وروى البخاري (6241) ومسلم (2156) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: " اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَرِ).

والواجب عند تعارض ظواهر النصوص الصحيحة أن يجتهد في الجمع بينها؛ لأن نصوص الوحي لا تتعارض حقائقها.

قال الشاطبي رحمه الله تعالى:

" كل من تحقق بأصول الشريعة؛ فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كل من حقق مناط المسائل؛ فلا يكاد يقف في متشابه؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة، فالمتحقق بها متحقق بما في نفس الأمر؛ فيلزم أن لا يكون عنده تعارض، ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف؛ لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ؛ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم " انتهى "الموافقات" (5 / 341).

ومن أوجه الجمع : أن يتعارض نص عام مع نص خاص، فيحمل العام على الخاص، فيعمل بالنص العام في سائر الأحوال ويستثنى منه الحال الذي فيه نص خاص.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ومعلوم من الأصول المستقرة إذا تعارض الخاص والعام فالعمل بالخاص أولى؛ لأن ترك العمل به إبطال له وإهدار، والعمل به ترك لبعض معاني العام " انتهى. "مجموع الفتاوى" (21 / 552).

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" واعلم أيضا أن التحقيق هو تخصيص العام بالخاص سواء تقدم عنه أو تأخر...

والدليل على تقديم الخاص على العام مطلقا أمران:

الأول: أن الصحابة كانوا يقدمونه عليه... ومن تتبع قضاياهم تحقق ذلك عنهم.

الثاني: أن دلالة الخاص أقوى من تناول العام له " انتهى. "مذكرة أصول الفقه" (ص 349).

وبناء على هذا؛ فإن نص النهي عن ضرب الوجه يستثنى منه ما جاء الإذن به، فيحكم بعموم النهي عن ضرب الوجه، ومن ضمنه العين، ويستثنى من ذلك:

1-ضرب العين على وجه القصاص، فإن حديث سمل أعين العرنيين كان على وجه القصاص، كما ورد عند الإمام مسلم (1671) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ( إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ، لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ ).

وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (228598).

وهذا ما تدل عليه المماثلة في القصاص، قال تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ) المائدة/45 .

2-ويستثنى أيضا: ضرب العين حين يكون الاعتداء حاصلًا بها، وذلك بالتجسس على بيوت الناس، كما يدل حديث أبي هريرة وسهل بن سعد رضي الله عنهما.

وإنما تكون هذه العقوبة لدفع صياله على حرمة المسلم، ولذلك فإن جواز ذلك مخصوص بما يكون "وقت الاطلاع" على حرم المسلم، عدوانا؛ فإذا نزع عن ذلك، أو انتهى عن هذه الاطلاعة، لم يكن للمعتدى عليه أن يخذفه في عينه، أو يطعن فيها بشيء، عقوبة لما فات من الاطلاع.

قال الإمام الشافعي، رحمه الله:

" فلو أن رجلا عمد أن يأتي نقْبا، أو كوة، أو جُوبةً، في منزل رجل، يطلع على حُرَمِه من النساء، كان ذلك المطلع من منزل المطلع، أو من منزل لغيره، أو طريق أو رحبة: فكل ذلك سواء، وهو آثم بعمد الاطلاع.

ولو أن الرجل المطلَعَ عليه خذفه بحصاة، أو وخزه بعود صغير، أو مدرى، أو ما يعمل عمله، في أن لا يكون له جرح يُخاف قتله، وإن كان قد يذهب البصر؛ لم يكن عليه عقل ولا قود، فيما ينال من هذا وما أشبهه. ولو مات المطلع من ذلك لم يكن عليه كفارة ولا إثم - إن شاء الله تعالى -.

ما كان المطلِع مقيمًا على الاطلاع، غير ممتنع من النزوع.

فإذا نزع عن الاطلاع، لم يكن له أن يناله بشيء. وما ناله به فعليه فيه قود، أو عقل، إذا كان فيه عقل.

ولو طعنه عند أول اطلاعِهِ بحديدة تجرح الجرح الذي يقتل، أو رماه بحجر يقتل مثله؛ كان عليه القود فيما فيه القود؛ لأنه إنما أذن له الذي يناله بالشيء الخفيف الذي يردع بصره، لا يقتل نفسه" انتهى، من "الأم" للإمام الشافعي (6/ 34 ط الفكر).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" صورة هذه المسألة: أن رجلا يطلع من شقوق الباب على البيت لينظر ما فيه، ولا شك أن الإنسان قد يطلع على عورة؛ فإن الناس في بيوتهم تختلف حالهم عن حالهم فيما إذا كانوا خارج البيت، ربما يطلع على عورة لا يحب أهل البيت أن يطلع عليها الناس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة هذا أن تفقأ عينه، وإذا فعلت ذلك فليس عليك جناح " انتهى. "فتح ذي الجلال والإكرام" (5 / 310).

فالحاصل؛ أنه لا يجوز تقصد العين بالضرب لأنها من جملة الوجه؛ ويستثنى من ذلك ما جاء به النص كما في الأحاديث السابقة.

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android