الحمد لله.
أولا:
الحديث المذكور في السؤال: رواه لإمام أحمد في "المسند" (6 / 332 - 334)، قال: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، وَعَفَّانُ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: قَالَ أَبِي: حَدَّثَنِي أَبُو تَمِيمَةَ، عَنْ عَمْرٍو - لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ: الْبِكَالِيَّ يُحَدِّثُهُ عَمْرٌو - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - قَالَ عَمْرٌو إِنَّ عَبْدَ اللهِ -، قَالَ: ( اسْتَتبْعَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى أَتَيْتُ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخَطَّ لِي خِطَّةً، فَقَالَ لِي: كُنْ بَيْنَ ظَهْرَيْ هَذِهِ لَا تَخْرُجْ مِنْهَا، فَإِنَّكَ إِنْ خَرَجْتَ هَلَكْتَ. قَالَ: فَكُنْتُ فِيهَا، قَالَ: فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَذَفَةً، أَوْ أَبْعَدَ شَيْئًا، أَوْ كَمَا قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ هَنِينًا كَأَنَّهُمْ الزُّطُّ، ( قَالَ عَفَّانُ: أَوْ كَمَا قَالَ عَفَّانُ: إِنْ شَاءَ اللهُ): لَيْسَ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ، وَلَا أَرَى سَوْءاتِهِمْ، طِوَالًا، قَلِيلٌ لَحْمُهُمْ، قَالَ: فَأَتَوْا، فَجَعَلُوا يَرْكَبُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَجَعَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ... ).
وهذا الخبر متكلم فيه من جهة متنه وإسناده.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وفيه غرابة شديدة " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/293).
ولعل مأخذ غرابته: أنه يتعارض مع ما رواه الإمام مسلم (450) عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُودٍ، قَالَ:( لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَهُ ).
وأما من جهة الإسناد فهو من رواية عمرو البكالي والأكثر على أنه لا صحبة له، ونص البخاري على أنه لا يعرف له سماع عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قال محققو المسند:
" إسناده ضعيف، عمرو البكالي -وكنيته أبو عثمان- لم يثبت سماعه لهذا الحديث من ابن مسعود، فقد قال البخاري في "التاريخ الصغير" 1/203: ولا يعرف لعمرو سماع من ابن مسعود. لكن قال أبو حاتم في "المراسيل" ص 119: روى عن ابن مسعود حديث ليلة الجن. وعمرو هذا مختلف في صحبته، والأكثر على أنه ليست له صحبة، ولم يؤثر توثيقه عن أحد ... " انتهى.
ثانيا:
على القول بصحة الحديث، فكلمة " هنين" هي جمع لكلمة "هن"، وهذه الكلمة كما يكنى بها عن الفرج، يشار بها أيضا إلى كل شيء، ومنها إلى الأشخاص.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" وفي حديث ابن مسعود، وذكر ليلة الجن، فقال: ( ثم إن هنينا أتوا، عليهم ثياب بيض طوال )، هكذا جاء في "مسند أحمد بن حنبل" في غير موضع من حديثه، مضبوطا مقيدا، ولم أجده مشروحا في شيء من كتب الغريب، إلا أن أبا موسى ذكر في غريبه عقيب أحاديث الهن والهناة: وفي حديث الجن: ( فإذا هو بهنينٍ كأنهم الزط )، ثم قال: جمعه جمع السلامة، مثل كرة وكرين، فكأنه أراد الكناية عن أشخاصهم " انتهى من "النهاية في غريب الحديث" (5 / 279).
وقال الزبيدي رحمه الله تعالى:
(ويقال) في النّداء (للرّجل) من غير أن يصرّح باسمه: (يا هَن أقبل)، أي يا رجل أقبل؛ ويا هَنان أقبلا، ويا هَنُون أقبلوا؛ (ولها: يا هَنَة أقبلي )، ويقال: يا (هَنْت) أقبلي، بالفتح وسكون النون والتاء مبسوطة، لغة في هَنَة...
وقال اللّيث: هَن: كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان، كقولك أتاني هَن، وأتتني هَنَة... " انتهى من "تاج العروس" (40 / 317 – 318).
وهذا الذي يدل عليه سياق الكلام بوضوح، بحيث لا يفهم العربي غيره، حيث ورد في الرواية:
( ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ هَنِينًا، كَأَنَّهُمْ الزُّطُّ، ( قَالَ عَفَّانُ: أَوْ كَمَا قَالَ عَفَّانُ: إِنْ شَاءَ اللهُ): لَيْسَ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ... ): هنا يتضح أنه يتكلم عن أشخاص، حيث شبههم بالزط، وهم قوم من الأقوام كانوا ببلاد العراق، ويقال إنهم المعروفون اليوم بالغجر.
قال الزبيدي رحمه الله تعالى:
" الزط، بالضم: جيل من الناس، كما في الصحاح. وقد جاء ذكره في البخاري في صفة موسى عليه السلام: كأنه من رجال الزط. واختلف فيهم، فقيل: هم السبابجة: قوم من السِّند بالبصرة " انتهى من "تاج العروس" (19 / 322).
وهذا الذي تصرح به الرواية الأخرى عند الترمذي (2861) عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الهُجَيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: ( صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِشَاءَ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى خَرَجَ بِهِ إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَأَجْلَسَهُ، ثُمَّ خَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: لَا تَبْرَحَنَّ خَطَّكَ؛ فَإِنَّهُ سَيَنْتَهِي إِلَيْكَ رِجَالٌ، فَلَا تُكَلِّمْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَلِّمُونَكَ. قَالَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَرَادَ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي خَطِّي، إِذْ أَتَانِي رِجَالٌ كَأَنَّهُمُ الزُّطُّ، أَشْعَارُهُمْ وَأَجْسَامُهُمْ، لَا أَرَى عَوْرَةً، وَلَا أَرَى قِشْرًا، وَيَنْتَهُونَ إِلَيَّ، لَا يُجَاوِزُونَ الخَطَّ ثُمَّ يَصْدُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... ).
قال المباركفوري: " (لا أرى عورة ولا أرى قشرة) بِكَسْرِ القافِ وسُكُونِ المُعْجَمَةِ غِشاءُ الشَّيْءِ خِلْقَةً أوْ عَرَضًا وكُلُّ مَلْبُوسٍ.
قالَ فِي المَجْمَعِ: أيْ لا أرى مِنهُمْ عَوْرَةً مُنْكَشِفَةً، ولا أرى عَلَيْهِمْ ثِيابًا" انتهى، من "تحفة الأحوذي" (8/127).
وأما عبارة: ( فَأَتَوْا، فَجَعَلُوا يَرْكَبُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَجَعَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ )، فمعناها: أنهم ازدحموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجمعوا حوله؛ نظير قول الله تعالى عنهم في "سورة الجن": ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) الجن/19 .
قال البغوي: " يعني النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه يعني يعبده ويقرأ القرآن، ذلك حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن كادوا يعني الجن يكونون عليه لبدا أي يركب بعضهم بعضا ويزدحمون حرصا على استماع القرآن. هذا قول الضحاك ورواية عطية عن ابن عباس." انتهى، من "تفسير البغوي" (8/243). وينظر: "تفسير الطبري" (23/343)، "البحر المحيط" لأبي حيان (24/600) ط هجر.
وقال أبو حيان: " لِبَدا: جماعات واحدها لبدة ومعناه يركب بعضهم بعضا." انتهى، من "تحفة الأريب بما في القرآن من غريب" (276).
ولهذا قال السندي في بيانه: " (يَرْكَبُونَ) أي: يزحمونه ويقربون منه " انتهى، من "حاشية المسند" (8/243).
والله أعلم.
تعليق