الحمد لله.
من أعطي مالًا ليوصله للفقراء والمحتاجين أو الغارمين أو غير ذلك من الأوصاف، وكان ممن ينطبق عليهم هذا الوصف، فهل له أن يأخذ منه لنفسه؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يحل له أن يأخذ منه شيئًا، ولا يعطي منه لأولاده؛ لأن صاحب المال لو كان قاصدًا له لدفع المال إليه، وتوكيله بتفريقه إشعار بأن المقصود غيره، وفي أخذه لنفسه مظنة المحاباة والتهمة.
ورخص في ذلك بعض العلماء؛ لأن صاحب المال علَّق الحكم بوصفٍ، وقد تحقَّق هذا الوصف فيه، فهو أسوةُ غيره من الفقراء والمحتاجين.
قال ابن بطال: "واختلف الفقهاء إذا قال الرجل: خذ هذا المال، فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير، هل يأخذ منه لنفسه إن كان فقيرًا أم لا؟
فقالت طائفة: لا يأخذ منه شيئًا؛ لأنه إنما أُمر بوضعه عند غيره، وهذا يشبه مذهب مالك في المدونة، سئل مالك عن رجل أوصى بثلث ماله لرجل، أن يجعله حيث رأى، فأعطاه ولد نفسه -يعني ولد الوصي- أو أحدًا من ذوي قرابته؟
قال مالك: لا أرى ذلك جائزًا.
وقال آخرون: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء.
وقال آخرون: جائز له أن يأخذه لنفسه كله إن كان فقيرًا.
ووجه قول من قال: لا يأخذ منه شيئًا لنفسه؛ لأن ربه أمره أن يضعه في الفقراء، ولم يأذن له أن يأخذه لنفسه، ولو شاء أن يعطيه له لم يأمره أن يضعه في غيره، فكأنه أقامه مقام نفسه، ولو فرَّقه ربه لم يحبس منه شيئًا.
ووجه قول من قال: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء، فهو أنَّ ربه أمره أن يضعه في الفقراء، وهو أحدهم، فلم يتعد ما قاله.
ووجه قول من قال: يأخذه كله لنفسه، أن ربه أمره أن يضعه في الفقراء، ومعلوم أنه لا يحيط بجماعتهم، وأن المال إنما يوضع في بعضهم، وإذا كان فقيرًا، فهو من بعضهم لأنه من الصفة التي أمره أن يضعه فيها" انتهى من "شرح صحيح البخاري" (6/454).
وقال ابن قدامة المقدسي: "وإذا أوصَى إليه بتَفْرِيقِ مالٍ، لم يكُنْ له أخذُ شيءٍ منه، نصَّ عليه أحمدُ، فقال: إذا كانَ في يدِه مالٌ للمَساكينِ وأبوابِ الْبِرِّ، وهو يَحْتاجُ إليه، فلا يأكلُ منه شيئا، إنَّما أُمِرَ بتَنْفِيذِه.
وبهذا قالَ مالكٌ والشَّافعيُّ.
وقال أبو ثَوْرٍ وأصحابُ الرَّأْي: إذا قالَ المُوصِي: جعلتُ لك أن تَضعَ ثُلُثِي حيثُ شِئْتَ، أو حيثُ رأيتَ؛ فله أخْذُه لنَفْسِه وولدِه.
ويَحْتَمِلُ أن يجوزَ ذلك عندنا؛ لأنَّه يتناولُه لفظُ المُوصِي.
ويَحْتَمِلُ أن يُنْظَرَ إلى قرائنِ الأحوالِ، فإن دلَّتْ على أنَّه أرادَ أخْذَه منه، مثلُ أن يكونَ من جُمْلَةِ المُسْتَحِقِّينَ الذين يُصْرَفُ إليهم ذلك، أو عادتُه الأخْذُ مِن مِثْلِه، فله الأخْذُ منه، وإلَّا فلا.
ويَحْتَمِلُ أنَّ له إعْطاءَ ولدِه وسائرِ أقاربِه إذا كانوا مُسْتَحِقِّينَ، دُونَ نفسِه؛ لأنَّه مَأْمورٌ بالتَّفْرِيقِ، وقد فرَّقَ فيمَن يَستحقُّ، فأشْبَهَ ما لو دفع إلى أجْنَبِىٍّ". انتهى من "المغني" (8/561).
وقال ابن حجر الهيتمي: "وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: لَوْ قَالَ: فَرِّقْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَأْمُورُ فَقِيرٌ، هَلْ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا؟
وِجْهَان؛ أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ، اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى وَهُوَ الْفَقْرُ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ: إذَا قَالَ الْمُوصِي: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ شِئْت، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضَعهُ فِي نَفْسِهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَلَا وَرَثَةِ الْمُوصِي، وَلَا فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْمَيِّتِ". انتهى من "الفتاوى الفقهية الكبرى" (3/263).
وليس ثمَّة نصٌ شرعي حاسمٌ في المسألة، إلا أن الأقرب: ما نقلناه عن الجمهور بالمنع، وهو الذي يؤيده النظر وتقتضيه المصلحة وخاصة في هذه الأعصار المتأخرة. ثم إنه أحوط، وأبرأ للذمة، وأبعد عن التهمة.
قال ابن رجب الحنبلي في القواعد: "الْمَأْذُونُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالٍ، هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ؟
الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ بَخْتَانِ، وَذَكَرَ فِي الْمُغْنِي احْتِمَالَيْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا.
وَالثَّانِي: الرُّجُوعُ إلَى الْقَرَائِنِ، فَإِنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى الدُّخُولِ جَازَ الْأَخْذُ، أَوْ عَلَى عَدَمِهِ لَمْ يَجُزْ، وَمَعَ التَّرَدُّدِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ...
وَلَكِنَّ الْأَوْلَى: سَدُّ الذَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ مُحَابَاةَ النَّفْسِ لَا تُؤْمَنْ". القواعد (ص129).
وقال الشيخ ابن عثيمين: "أما من حيث العمل ـ ولا سيما في زمننا هذا ـ فينبغي أن يُمنع الوكيل أو الوصي مطلقاً من أن يَصرف الشيء إلى نفسه، أو إلى أحد من ذريته، من ذكور أو إناث، والعلة هي التهمة، ألا يحرص على أن يضع هذا الشيء موضعه". انتهى من "الشرح الممتع" (11/197).
وعلى القول بالمنع فتوى اللجنة الدائمة.
سئلت اللجنة الدائمة (9/436): لقد أعطاني بعض الناس أموال زكاة لأصرفها في مصارفها الشرعية، وأخذت المال ووزعت منه، ولكن أخذت منه لنفسي جزءاً؛ لأنني احتجت هذا المبلغ لكي أتزوج وأصلح منزلي الذي كان غير لائق للزواج، وكان عندي نية السداد ولكن ظروفي الآن لا تسمح بالسداد فما الحل؟ وهل أخذي هذا المال حلال أم حرام؟ وهل لابد من السداد؟
فأجابت: "لا يجوز لك الأخذ من المال الذي سلم لك لتوزيعه على مستحقي الزكاة، فيجب عليك رد بدل المال الذي أخذت، أو دفعه لمستحقيه مع التوبة والاستغفار مما حصل منك".
والله أعلم.
تعليق