الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

كيف نجمع بين حديث الندب إلى كيل الطعام، والأحاديث الناهية عن الإحصاء والكيل؟

444669

تاريخ النشر : 17-07-2023

المشاهدات : 8165

السؤال

قرأت حديث نبويا يقول: (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه)، فما معناه؟ وما المقصود منه؟ وكيف نطبقه في واقعنا الحالي؟ ثم ألا يتعارض هذا مع الأحاديث التي تنهى عن العد والإحصاء في الطعام؟!

الجواب

الحمد لله.

أولا:

روى البخاري (2128) عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ.

الأرجح أن هذا الحديث متعلق بالنفقات، فينبغي للمسلم أن يكيل المقدار الذي سينفقه على عياله، حتى لا يسرف ولا يقتر.

قال ابن بطال رحمه الله تعالى:

" الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله، ونَدبُ النبى أمته إليه يدل على البركة فيه.

قال المهلب: ويحتمل المعنى - والله أعلم - أنهم كانوا يأكلون بلا كيل، فيزيدون في الأكل، فلا يبلغ لهم الطعام إلى المدة التي كانوا يقدرونها، فقال لهم عليه السلام: (‌كِيلُوا ) أي: أخرجوا بكيل معلوم، يبلغكم إلى المدة التي قدرتم، مع ما وضع الله من البركة في مد أهل المدينة بدعوته عليه السلام " انتهى من "شرح صحيح البخاري" (6 / 255).

وقال ابن الملك رحمه الله تعالى:

" والغرض من كيل الطعام: معرفة ما يُصرف إلى العيال، حتى لا يكون تقتيرا ولا إسرافا..." انتهى من "شرح مصابيح السنة" (4/556).

وهذا كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا الفرقان/67.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المقدام: ( كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فيه )، أصح ما قيل فيه، وفي معناه: أنه الطعام الذي يخرجه صاحب البيت على عائلته، وهو الذي يدل عليه، وهو المناسب للمعنى.

وهذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم أصل كبير، وقاعدة أساسية، وميزان لما دلت عليه الآية الكريمة: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا )، فمعنى: ( كِيلُوا طَعَامَكُمْ ): أي قدروه بمقدار كفاية المنفَقِ عليهم من غير زيادة ولا نقصان؛ فإن في ذلك سلوكا لطريق الاقتصاد والحزم والعقل...إن النفقات إذا خرجت عن طورها وموضوعها، تفرع عنها الشره والفساد؛ فإنه إذا لم يَكِل ويُقَدِّر ما يُطْعِمه لمن يعوله: فإما أن يكون أزيد من الكفاية، فالزائد إما أن يأكلوه، وهو عين ضررهم إذا كان زائدا عن الحاجة، فكثير من الأضرار البدنية والآلام إنما تنشأ من زيادة الطعام، وإما أن يتلف عليه، وذلك فساد. وقد يوجد الأمران... " انتهى من "الفتاوى السعدية" (ص 589 — 590).

ثانيا:

وهذا لا يتعارض مع حديث أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا ‌تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ وَقَالَ: لَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ رواه البخاري (1433)، ومسلم (1029)، واللفظ عنده: انْفَحِي، أَوِ انْضَحِي، أَوْ أَنْفِقِي، وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِي اللهُ عَلَيْكِ.

فهذا الحديث خرج مخرج الحث على الكرم والصدقة وتجنّب خلق الشحّ، فلا يعارض الحديث السابق الذي فسّر على تقدير وكيل ما ينفقه الإنسان على نفسه وعياله.

ولذا أخرج البخاري حديث أسماء هذا تحت باب: " التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا ".

وكذا أخرجه مسلم ضمن أبواب الصدقات.

ويبيّن هذا سبب ورود الحديث، كما في رواية الإمام البخاري (2590) عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لِيَ مَالٌ، إِلَّا مَا أَدْخَلَ ‌عَلَيَّ ‌الزُّبَيْرُ، ‌فَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ: تَصَدَّقِي، وَلَا تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكِ.

ثالثا:

ولا يتعارض هذا أيضا مع الحديث الذي رواه البخاري (3097)، ومسلم (2973) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، ‌فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ".

فعائشة رضي الله عنها لم تكل ما ستنفقه، بل كالت المتبقي.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:

" وفى هذا أنّ البركة أكثر ما توجد في المجهولات والمبهمات، وأما ما حصر بالعدد أو بالكيل فمعرّف قدره.

ولا يعارض هذا: الكيل في إخراج النفقة، لما جاء: ( كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ ) إذا بقى الأصل مجهولا، بل في كيل ما يخرج، البركةُ في الباقي، وحسن النظر، والإخراج عن الحزر والجزاف يسبب التبذير، وإخراج أكثر من الحاجة، وليس ذلك من تدبير المعيشة التي هي أحد اليسارين. وهذا معنى الحديث الآخر، ولا تعارض بينهما " انتهى من "إكمال المعلم" (8 / 524 — 525).

وحمل بعضهم قصة عائشة رضي الله عنها على الخصوصية.

قال ابن حجر رحمه الله تعالى:

" وأما قولها: ( ‌فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ )، قال ابن بطال: فيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلوما للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة، لأنه غير معلوم مقداره.

قلت: في تعميم كل الطعام بذلك نظر، والذي يظهر أنه كان من الخصوصية لعائشة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع مثل ذلك في حديث جابر الذي أذكره آخر الباب… " انتهى. "فتح الباري" (11 / 280).

أي أنّ طعام عائشة رضي الله عنها كان محض بركة من الله تعالى، ومثل هذا يترك كما هو، ولا يتعرض إليه.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

" فإن قيل: كيف الجمع بين هذا وبين ما تقدم في مسند الْمِقْدَام بن معدي كرب: ( كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ )؟

فالجواب: أن عائشة كالت الطّعام ناظرة إلى مقتضى العادة، غير متلمحة في تلك الحالة منحة البركة، فرُدَّ إِلى مقتضى العادة، كما ردّت زمزم إِلى عادة البئار حين جمعت هاجر ماءها.

وكذلك قول النّبي صلى الله عليه وسلم لأبي رَافع: ( نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ! قَالَه لَهُ ثَلَاث مَرَّات، فَقَالَ: وَهَلْ لِلشَّاةِ إِلَّا ذِرَاعَانِ؟! فَقَالَ: لَوْ سَكَتَّ لَنَاوَلْتَنِي مِنْهَا مَا دَعَوْتُ بِهِ ) فَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مستمدا للبركة، وكان أبو رافع ناظرا إلى مقتضى العادة " انتهى من "كشف المشكل" (4/ 331 — 332).

وروى مسلم من حديث جابر: " أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَصَرْتِيهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ ‌تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا رواه مسلم (2280) .

ومن حديثه أيضا: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطْعِمُهُ فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ رواه مسلم (2281).

قال القرطبي رحمه الله تعالى:

" وقوله لصاحبة العكة: ( لو تركتيها ما زال قائمًا )، ولصاحب الشطر: ( لو لم تكله لقام بكم )، يستفاد منه: أن من أُدِرَّ عليه رزق، أو أُكرم بكرامة، أو لُطِف به في أمر ما، فالمتعيَّن عليه: موالاة الشكر، ورؤية المنة لله تعالى، ولا يحدث مغيِّرًا في تلك الحالة، ويتركها على حالها. ومعنى رؤية المنة: أن يعلم أن ذلك بمحض فضل الله، وكرمه، لا بحولنا، ولا بقوتنا، ولا استحقاقنا " انتهى من "المفهم" (6/54).

والله أعلم.
 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب