الحمد لله.
أولا:
ثبت بنص القرآن أن نزول القرآن الكريم كان في شهر رمضان، وذلك في قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة/185.
وفي ليلة القدر منه، كما في قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) الدخان /3.
وفي قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) القدر/1-5.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) لم يبين هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار؟ ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه أنزل في ليلة القدر من رمضان، وذلك في قوله: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )، وقوله: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ )؛ لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق.
وفي معنى إنزاله وجهان:
الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله كما قال به بعضهم " انتهى من "أضواء البيان" (1 / 143).
وتعيين ليلة القدر محل خلاف بين أهل العلم، والذي دلت عليه الأحاديث أنها ليلة من الليالي الوترية من العشر الأواخر.
روى البخاري (2017)، ومسلم (1169) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ )، وفي رواية البخاري: ( فِي الْوِتْرِ، مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ).
وبوّب عليه البخاري بقوله: " بَابُ تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ".
والقول بأن ليلة القدر متنقله بين ليالي العشر الأواخر، هو قول ذهب إليه جمهور أهل العلم؛ لأن به تجتمع الروايات الواردة في تعيين ليلة القدر.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" والحاصل من مجموع الأحاديث، ومما استقر عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبها: أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها متنقلة فيه، وبهذا يجتمع شتات الأحاديث المختلفة الواردة في تعيينها. وهو قول مالك، والشافعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وغيرهم على ما حكاه أبو الفضل عياض. فاعتَمِد عليه، وتَمَسَّك به " انتهى من "المفهم" (3 / 251).
والقول بتنقلها ليس المقصود به أن ذات الزمن يتنقل؛ وإنما المقصود أنّ الخصائص التي اختصت بها ليلة القدر تتنقل بين ليالي العشر، وهذا ليس فيه ما يستنكر، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل هذه الخصائص في سنة في ليلة ثلاث وعشرين مثلا، وفي سنة أخرى في ليلة سبع وعشرين، وهكذا.
فإذا قدر أن القرآن نزل أول ما نزل في ليلة السابع والعشرين، فيقال: كانت ليلة القدر في هذه السنة، هي ليلة السابع والعشرين، وفي هذه الليلة نزل القرآن، وتحققت فيها فضيلة ليلة القدر.
والقرآن لا يبدأ نزوله كل سنة، بل إنما كان ذلك في ليلة واحدة، وانقضت، ولم تعد، فلا ينزل القرآن في ليلة القدر من كل سنة، وإنما يبقى في كل سنة فضيلة ليلة القدر، وهذه الفضيلة ف في الليالي: متنقلة، فقد تكون فضيلتها وخصائصها في ليلة سبع، أو خمس، أو ثلاث، أو ما كانت.
والحاصل: أنه لا تلازم بين نزول القرآن، وبين مجيء ليلة القدر في كل سنة، ولا يلزم لحصول الفضيلة أن ينزل فيها القرآن، فإن هذا إنما كان في الليلة الأولى لنزوله، على الخلاف السابق ذكره، ثم مضت، فلم تعد ، وبقيت فضيلة الليلة في كل سنة.
ثانيا:
وأما قولك: لماذا لا نعلم شيئا ثابتا عن تاريخ الليلة التي أنزل فيها القرآن رغم أنها ليلة مهمة؟
فيقال: نحن نعلم أنها ليلة القدر كما سبق من الآيات القرآنية، وأنها في العشر الأواخر من رمضان، كما سبق من حديث عائشة رضي الله عنها، وغيرها.
وأما تعيينها في كل سنة ، فعدم إخبار الوحي بذلك، دليل على أن الأفضل لنا أن تبقى مبهمة .
عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ) رواه مسلم (1844).
فإبهامها خير لنا ، حتى نجتهد في العبادة في العشر كلها التماسا لخير تلك الليلة .
فلو علم الناس عين هذه الليلة لقل الاجتهاد، ولانصرف كثير من الناس عن عبادة الاعتكاف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولا كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كل منهما ليقع الجد في طلبهما " انتهى من "فتح الباري" (4/262).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" والصحيح أنها تتنقّل فتكون عاما ليلة إحدى وعشرين، وعاما ليلة تسع وعشرين، وعاما ليلة خمس وعشرين، وعاما ليلة أربع وعشرين، وهكذا؛ لأنه لا يمكن جمع الأحاديث الواردة إلا على هذا القول، لكن أرجى الليالي ليلة سبع وعشرين، ولا تتعين فيها كما يظنه بعض الناس، فيبني على ظنه هذا، أن يجتهد فيها كثيرا ويفتر فيما سواها من الليالي.
والحكمة من كونها تتنقل أنها لو كانت في ليلة معينة، لكان الكسول لا يقوم إلا تلك الليلة، لكن إذا كانت متنقلة، وصار كل ليلة يحتمل أن تكون هي ليلة القدر صار الإنسان يقوم كل العشر، ومن الحكمة في ذلك أن فيه اختبارا للنشيط في طلبها من الكسلان " انتهى من "الشرح الممتع" (6 / 492).
والله أعلم.
تعليق