الحمد لله.
أولا:
لا شك أن الجن مكلّفون ومخاطبون برسالة الرسل عليهم السلام، كما قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية الكريمة ( إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ): أي إلا لآمرهم بعبادتي، وأبتليهم، أي أختبرهم بالتكاليف، ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرًا فشر.
وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم ...
وقال تعالى في أول سورة الملك: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ...
فتصريحه جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا، يفسر قوله ( إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا يتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته " انتهى من "أضواء البيان" (7/ 714 - 715).
ومنهم المؤمن المستجيب لدعوة الرسل ومنهم الكافر.
كما في قوله تعالى:
( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) الأحقاف/29-31.
وقول الله تعالى:
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) الجن/1-2.
ثانيا:
اختلف أهل العلم في أصل الشيطان هل هو من الجنّ، أم لا؟
ونصّ القرآن واضح على أنه من الجنّ، كما في قول الله تعالى:
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) الكهف/50.
ولأن الله تعالى لما حصر المضلين للخلق عن الحق، لم يذكر إلا أهل الضلال من الجنّ والإنس.
كقول الله تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) فصلت/29.
وكقول الله تعالى:
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) الناس/1-6.
ولو لم يكن الشيطان من الجنّ، لذكره الوحي منفردا، لأنه رأس أهل الضلال.
لكن الشياطين فئة خاصة من الجن؛ هم أهل "التشيطن" والتمرد، والعتو، والفساد فيهم.
وهل يمكن لهذا الصنف من الجن أن يتوبوا، ويسلموا لله رب العالمين؟
أما رأسهم الشيطان الذي رفض أمر الله تعالى بالسجود لمّا خلق آدم عليه السلام، فهذا قد نص الوحي على أنه سيبقى على ضلاله إلى يوم القيامة وأنه من أهل جهنم.
كما في قول الله تعالى:
(قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ص/75 - 85.
وأما ذريته وجنده، فالأصل فيهم أنهم على طريقه، ومسلكه في "الشيطنة" والعتو، والتمرد.
لكن ورد عند الإمام مسلم (2814) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ).
قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: (وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ).
وروى أيضا (2815) عن عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: (مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟) فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟) قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: (نَعَم)، قُلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: (نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ).
وقد اختُلف في ضبط: ( أَسْلَمَ )، فمنهم من ضبطها هكذا بفتحة على الميم. أي: صار مسلما.
ومن اختار هذا الضبط، قال يؤيده السياق، حيث ورد بعدها: ( فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ).
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ ): جمهور الرواة يقولون: فأسلمَ، بفتح الميم، ويريدون أن الشيطان صار مسلما...
قوله: ( فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ )، فحينئذ يزول عنه اسم الشيطان ويصير مسلما، ويكون هذا مؤيدا لرواية الجمهور " انتهى من "المفهم" (7/ 401).
وذهب بعضهم إلى أن لفظ: ( فَأَسْلَمُ ) بضمة على الميم، أي: النبي صلى الله عليه وسلم قد سلم من شر الشيطان ووساوسه.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" قوله: ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ): رويناه بالضبطين من الرفع والفتح، فمن رفع تأولها: فأسلم أنا منه، وهى التي صحح الخطابى ورجَّح " انتهى من "إكمال المعلم" (8 / 350).
قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى:
" وسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ خَشْرَمٍ يَقُولُ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمُ، يَعْنِي: أَسْلَمُ أَنَا مِنْهُ.
قَالَ سُفْيَانُ: وَالشَّيْطَانُ لاَ يُسْلِمُ " انتهى من "السنن" (2/463).
وقال أصحاب هذا الرأي: إن عبارة : ( فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ ) لا يلزم منها إسلامه، فقد يسلم من وسوسته بالشر، ولا يأتيه منه إلا الخير، لعارض آخر سوى إسلامه. كما في قصة أبي هريرة رضي الله عنه، المشهورة، قَالَ:
( وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ؛ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الحَدِيثَ -، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ) رواه البخاري (3275).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله: ( صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ ) والمعنى: صدقك في هذا القول، مع أن عادته الكذب المستمر، وهو كقولهم: قد يصدق الكذوب " انتهى من "فتح الباري" (9 / 56).
فالحاصل: أن دلالة الحديث المذكور على إسلام قرين النبي صلى الله عليه وسلم: محتملة، وليست بقاطعة.
وعلى القول بإسلامه، فإن الاستثناء في الحديث يفهم منه عدم إسلام قرناء سائر الناس، وأن إسلام قرين النبي صلى الله عليه وسلم كان كرامة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يكفي في الجزم بإمكان ذلك بالنسبة للشياطين على وجه العموم، أو شيطان إنسان على وجه الخصوص، فضلا عن وقوع ذلك فعلا ؛ لا يكفي فيه مجرد التجويز العقلي، ولا الاستناد إلى عمومات، ولا ألفاظ محتملة. وقد قال الله تعالى:
( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) الإسراء /36.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم، ويشمل ذلك قوله: رأيت، ولم ير. وسمعت، ولم يسمع، وعلمت، ولم يعلم. ويدخل فيه كل قول بلا علم، وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم، وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر " انتهى من "اضواء البيان" (3/682).
وعلى المسلم أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتكلف البحث فيما لا يعلم.
قال الله تعالى:
(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) سورة ص/86.
عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ )... ) رواه البخاري (4809)، ومسلم (2798).
خاصة وأن هذه المسألة لا فائدة من البحث فيها؛ لأنه على فرض إسلام بعض القرناء، فإن على المسلم أن يكون على حذر من قرينه إلى الممات، كما أرشدنا الشرع، وأن يتعوذ من الشيطان وشره في المواطن التي أمر بالتعوذ فيها.
والله أعلم.
تعليق