الحمد لله.
أولا:
الواجب في فهم نصوص الوحي، هو أن تفهم نصوص الوحي المشتبهة المعنى على ضوء النصوص المحكمة الثابتة الواضحة المعنى؛ لأنها كلها من عند الله تعالى فهي تتفق ولا تختلف.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق، وهي أنهم يردُّون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يُفسِّر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضُها بعضًا، ويصدُّق بعضُها بعضًا، فإنَّها كلها من عند اللَّه، وما كان من عند اللَّه فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره" انتهى من "اعلام الموقعين" (4/ 58).
والنصوص المحكمة المتعلقة بالثواب والعقاب الأخروي؛ متفقة على أن من أطاع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فقام بالواحبات وترك المحرمات، فهو موعود بالجنة، والنصوص في هذا الشأن كثيرة.
كقول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ غافر/40.
وكما ورد في حديث طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ، قال: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.
فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟
قَالَ: لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَصِيَامُ رَمَضَانَ.
قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟
قَالَ: لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ.
قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ.
قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟
قَالَ: لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ.
قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ رواه البخاري (46)، ومسلم (11).
قال ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى:
" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفلح إن صدق ) ففيه دليل والله أعلم على أن من أدى فرائض الله، وجبت له الجنة إذا اجتنب محارمه؛ لأن الفلاح معناه البقاء في نعيم الجنة التي أكلها دائم وظلها، وفاكهتها لا مقطوعة ولا ممنوعة؛ وعلى أداء فرائض الله واجتناب محارمه، وعد الله المؤمنين بالجنة والله لا يخلف الميعاد " انتهى من "التمهيد" (16/174).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" طبقة أهل النجاة، وهى طبقة من يؤدى فرائض الله ويترك محارمه، مقتصراً عل ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه. فلا يتعدى إلى ما حرم الله عليه، ولا يزيد على ما فرض عليه.
هذا من المفلحين بضمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أخبره بشرائع الإسلام، فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ( أفلح إن صدق )، وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على الله تكفير سيئاتهم، إذا أدوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه.
قال تعالى: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تَنْهُونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) " انتهى من "طريق الهجرتين" (2 / 825).
ثانيا:
عذر الشريعة للضعيف والعاجز والمريض، في عامة مواردها . قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ التوبة/91.
قال الشيخ ابن سعدي، رحمه الله: " وهذا شامل لجميع أنواع المرض الذي لا يقدر صاحبه معه على الخروج والجهاد، من عرج، وعمى، وحمى، وذات الجنب، والفالج، وغير ذلك.
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ أي: لا يجدون زادا، ولا راحلة يتبلغون بها في سفرهم، فهؤلاء ليس عليهم حرج، بشرط أن ينصحوا لله ورسوله، بأن يكونوا صادقي الإيمان، وأن يكون من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا، وأن يفعلوا ما يقدرون عليه من الحث والترغيب والتشجيع على الجهاد.
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي: من سبيل يكون عليهم فيه تبعة، فإنهم -بإحسانهم فيما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد- أسقطوا توجه اللوم عليهم، وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه، سقط عنه ما لا يقدر عليه ...
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومن مغفرته ورحمته، عفا عن العاجزين، وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب القادرين الفاعلين" انتهى، من "تفسير السعدي" (347).
والحاصل: أن الضعف الحسي والبدني، سواء كان لمرض أو غيره، هو من جملة الأعذار التي تسقط عن العبد اللوم والحساب فيما عجز عنه، أو ضعف عن القيام به، لا أنه من موجبات اللوم، أو من أسباب العذاب. وهذا أمر مقرر محكم في الشريعة، لا إشكال فيه.
ثالثا:
وبناء على هذا؛ فضعف العبد إنما يحاسب عليه إن اتخذه صاحبه وسيلة وذريعة لاقتحام المحرمات، وترك الواجبات.
كمن لا يحسن صنعة، فيتخذ هذا ذريعة لسرقة أموال الناس، فالضعيف الذي لا يستطيع فعل أمر نافع، فالواجب عليه في هذه الحال أن يكف شره.
روى البخاري (2518)، ومسلم (84) عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ، قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ.
والعاجز عن الزواج واتخاذ الأهل لفقره أو غير ذلك، لا يجوز له انتهاك المحرمات والفواحش بحجة أن لا قدرة له على الزواج.
فالزواج يجب على من خاف على نفسه المحرمات.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" فإذا خاف الزنا لوجود أسبابه وانتفاء موانعه، صار النكاح في حقه واجبا دفعا لهذه المفسدة؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " انتهى من "الشرح الممتع" (12 /8).
راجع للفائدة جواب السؤال رقم: (5511 ).
لكن من عجز عنه مع حاجته إليه، لما فيه من شهوة، فعليه في هذه الحال أن يباشر من الأسباب ما يحميه عن الوقوع في المحرمات، كالصوم، والتزام الصبر.
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ رواه البخاري (5066)، ومسلم (1400).
فإذا منع نفسه عن المحرمات فقد اتقى الله تعالى، وترجى له النجاة يوم القيامة.
وكذا العمل إنما يجب على من تجب عليه النفقة على نفسه أو غيره من زوجة أو ولد، ولا يجد سبيلا له إلى النفقة الحلال إلا بالعمل.
عن وَهْب بْن جَابِرٍ، قال: " إِنَّ مَوْلًى لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ هَذَا الشَّهْرَ هَاهُنَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ؟
فَقَالَ لَهُ: تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ مَا يَقُوتُهُمْ هَذَا الشَّهْرَ؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَاتْرُكْ لَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضِيعَ مَنْ يَقُوتُ رواه الإمام أحمد في "المسند" (11 / 431 - 432)، وصححه محققو المسند.
رابعاً:
على ضوء ما سبق يفهم الحديث الذي رواه الإمام مسلم (2865) عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا... قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ. قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ. وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ، وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ .
المقصود بالضعيف هنا هو الضعيف في أمر دينه، فهو ضعيف العقل والبصيرة، فلا يتقي ما يضره في أمر دينه، فهو مضيع لنفسه فلا يزكيها بالتقوى، كمن أعرض عن الزواج، لكنه لا يمسك نفسه عن الفواحش والمحرمات، وكمن لا يجتهد في أمر الدنيا بالعمل والتكسب، لكنه لا يمنع نفسه عن أكل الأموال المحرمة والمشتبهة.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" قد ذم الضعف في أمور الدين، جعله من صفات أهل النار كما قال: (وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ). والزبر هنا: العقل. قاله الهروي. وفي الصحاح: يقال: ما له زبر، أي: عقل وتماسك.
قلت: وسمي العقل زَبْرا؛ لأنَّ الزبر في أصله هو المنع والزجر. يقال: زبره يزبره - بالضم - زبرا: إذا انتهره ومنعه. ولما كان العقل هو المانع لمن اتصف به من المفاسد والزاجر عنها، سمي بذلك ...
و( الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا ) هذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لقوله أولا: ( الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ ) فيعني بذلك: أن هؤلاء القوم ضعفاء العقول، فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية، ولا فضيلة نفسية ولا دينية، بل: يهملون أنفسهم إهمال الأنعام، ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال والحرام…" انتهى من "المفهم" (7/166).
وقال شهاب الدين التّوربشتي رحمه الله تعالى:
" وفيه: ( الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ )، فسر أصحاب الغريب (الزبر): بالعقل، وهو صحيح من طريق اللغة، غير أن المعنى لا يستقيم عليه؛ لأن من لا عقل له لا تكليف عليه، فكيف يحكم بأنه من أهل النار.
وأرى الوجه فيه أن يفسر بالتماسك، فإن أهل اللغة يقولون: لا زبر له، أي: لا تماسك له، كما يقولون: لا عقل له، وهو في الأصل مصدر، والمعنى: لا تماسك له عند مجيء الشهوات، فلا يرتدع عن فاحشة ولا يتورع عن حرام.
وفيه: ( الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا ) يعنى به الخدام الذي يكتفون بالشبهات والمحرمات التي يسهل عليهم التطرق إليها عما أبيح لهم، فليس له همة ناهضة إلى ما وراء ذلك من أهل ومال " انتهى من "الميسر في شرح مصابيح السنة" (3/1072).
فالحاصل؛ أن تركك للزواج بسبب مرضك، لا حرج فيه ولا ينطبق عليك ما في الحديث ما دمت تمنع نفسك عن الفواحش ومقدماتها، وما دمت تجتهد في تزكية نفسك، والاستكثار من الخير.
نسأل الله الكريم لنا ولكم الثبات على الرشد.
والله أعلم.
تعليق