الحمد لله.
أولا:
القناعة: الرضا بما قسم الله. وبعضهم يجعلها: الرضا بالكفاف. وهاتان مرتبتان في القناعة.
قال السفاريني في "شرح منظومة الآداب" (2/534) عند قول الناظم:
فما العز إلا في القناعة والرضا ... بأدنى كفافٍ حاصلٍ والتزهدِ
" القناعة بالفتح، من قنِع كتعِب: الرضا بالقسم...
واعلم أن المراد بالكفاف: ما كف عن سؤالٍ ...
وقال الحافظ المنذري: هو الذي ليس فيه فضل عن الكفاية " انتهى.
وقد جاء في فضل القناعة ما روى مسلم (1054) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ.
قال المناوي رحمه الله في "فيض القدير" (4/ 508): " (وقنعه الله بما آتاه) أي جعله قانعا بما أعطاه إياه، ولم يطلب الزيادة؛ لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له، والفلاح: الفوز بالبغية في الدارين. والحديث قد جمع بينهما، والمراد بالرزق: الحلال منه؛ فإن المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح، وذكر الأمرين، وقيد الثاني بقنع، أي رزق كفافا وقنعه الله بالكفاف، فلم يطلب الزيادة، وأطلق الأول؛ ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام، ذكره الطيبي. وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء؛ لأنه لا يترفَّه في طيبات الدنيا، بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة" انتهى.
وما ذكره هو درجة من درجات القناعة، وهي الرضا بالكفاف وعدم طلب المزيد.
وثمة درجة أخرى وهي الرضا بما قسم له، فلا يكره ما أتاه ولو كان كثيرا، لكن لا يطلب ذلك.
قال الماوردي رحمه الله: " والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:
فالوجه الأول: أن يقنع بالبُلْغة من دنياه، ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه.
وهذا أعلى منازل القناعة. وقال الشاعر:
إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها
وقال مالك بن دينار: أزهد الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بُلْغَته.
وقال بعض الحكماء: الرضى بالكفاف يؤدي إلى العفاف.
وقال بعض الأدباء: يا رُبّ ضِيقٍ أفضلُ من سَعة، وعَنَاءٍ خيرٌ من دَعَة...
والوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة. وهذه أوسط حال المقتنع...
والوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سَنَحَ، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرا، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيرا. وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة. أما الرغبة؛ فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت. وأما الرهبة؛ فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت" انتهى من "أدب الدين والدنيا" ص 226
وتبين بهذا أن طلب المزيد ليس من القناعة.
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يكون رزقه قوتا كفافا، كما روى مسلم (1055) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا.
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (7/146): " قال أهل اللغة العربية: القوت ما يسد الرمق. وفيه فضيلة التقلل من الدنيا، والاقتصار على القوت منها، والدعاء بذلك" انتهى.
وقال القرطبي في "المفهم" (9/67): " وقوله : (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا)؛ أي : ما يَقُوتهم ويكفيهم، بحيث لا يشوِّشهم الجَهد، ولا تُرهقهم الفاقة، ولا تذلهم المسألة والحاجة، ولا يكون أيضًا في ذلك أيضًا فضول يخرج إلى الترف والتبسط في الدنيا، والركون إليها.
وهذا يدل على زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وعلى تقلله منها، وهو حجة لمن قال: إن الكفاف أفضل من الفقر والغنى" انتهى.
وقال رحمه الله: " جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث: الفقر، والغنى، والكفاف!!
فكان الأولُ: أولَ حالاته، فقام بواجب ذلك من مجاهدة النفس.
ثم فُتحت عليه الفتوح، فصار بذلك في حد الأغنياء، فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه، والمواساة به والإيثار، مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله، وهي صورة الكفاف التي مات عليها. وهي حالة سليمة من الغنى المُطغي، والفقر المؤلم" انتهى مما نقله عن ابن حجر في "الفتح" (11/274).
ثانيا:
لا حرج في طلب المزيد الدنيوي من الله؛ لعموم الأدلة في جواز الانتفاع بالحلال، وجواز طلبه من الله.
وقد روى البخاري (3391) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى، قَالَ بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ.
وأما المزيد من العلم والطاعة والقرب والمنزلة من الله تعالى، فهذا يستحب طلبه والحرص عليه، كما هو معلوم.
والله أعلم.
تعليق