الحمد لله.
أولا:
أمثال هذه المسائل إذا تناولها العبد بمحض عقله، تاه وضل، وطاشت أفكاره عن الصواب، ولم يخرج منها إلا بما يزري من الآراء.
قال الشيخ مرعي الكرمي، رحمه الله تعالى:
" وأما تعليل أفعال الله كلها الجارية في المكلّفين وغيرهم فهذا ممّا لا سبيل إلى معرفته والوقوف على سر حقيقته، وفي مثل هذا المقام تخبطت الأفهام:
فقالت طائفة: إِن البهائم والأطفال لا تتألم ولا تحس بالألم وهذا جحد للضّرورة ومكابرة في المحسوس ...
وقالت طائفة من غلاة الرافضة: بالتزام التناسخ، وقالوا إنّما حسن ذلك لاستحقاقهم ذلك بجرائم سابقة اقترفوها في غير هذه القوالب، فنقلت أرواحهم إلى هذه القوالب، عقوبة لهم.
وموجب هذا التّخليط تعلق أمل هؤلاء بمعرفة حقيقة أسرار أفعال الله تعالى في المكلّفين وغيرهم، وهذا ممّا لا سبيل إلى معرفته.
ويكفي معرفة الحكمة والتّعليل في ثواب وعقاب المكلّفين؛ وهو المراد … " انتهى. "رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر" (ص57).
فأمثال هذه المسائل مما يجب على المؤمن أن يتناولها بما يقتضيه صدق إيمانه، فمادام مصدقا بأن الله عليم حكيم، كامل العلم والحكمة والعدل والرحمة والكرم، فلا ينبغي أن يسأل لماذا فعل الله تعالى هذا ولَمْ يفعلْ هذا.
قال الله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ الأنبياء/23.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة.
وهو لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، لا لمجرد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته " انتهى. "مجموع الفتاوى" (8 / 79).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" إنّ له تعالى في كلّ ما خلقه وشرعه حكمةً بالغةً، ونعمةً سابغةً، لأجلها خلق وأمر، ويستحقّ أن يُثنى عليه ويُحمد لأجلها، كما يُثنى عليه ويحمد لأسمائه الحسنى ولصفاته العلى.
فهو المحمود على ذلك كله أتمّ حمدٍ، وأكمله، لما اشتملت عليه صفاته من الكمال، وأسماؤه من الحسن، وأفعاله من الحِكَم والغايات المقتضية لحمده، المطابقة لحكمته، الموافقة لمحابّه.
فإنّه سبحانه كامل الذات، كامل الأسماء والصفات، لا يصدر عنه إلا كلُّ فعلٍ كريم مطابق للحكمة، مُوجِبٍ للحمد ... " انتهى. "طريق الهجرتين" (1/322).
وأما من لم يرض، ولم يطمئن قلبه إلا بأن يشارك الله سبحانه وتعالى في كمال علمه، فمثل هذا لم يتيقن قلبه بكمال صفات الله تعالى الحسنى، ولم يحقق الإيمان بالغيب.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" أترى يظن الظان أن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء، أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين؟! هيهات! هذا أسهل التكليف!
وإن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال، ومن جملته:
أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل، ألزمت العقل الإذعان للمقدر، فكان من أصعب التكليف، وخصوصا فيما لا يعلم العقل معناه، كإيلام الأطفال، وذبح الحيوان، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك، والآمر به: أرحم الراحمين.
فهذا مما يتحير العقل فيه، فيكون تكليفه التسليم، وترك الاعتراض، فكم بين تكليف البدن وتكليف العقل؟! " "صيد الخاطر" (ص 81 -82).
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:
" اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله، على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع.
ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي، صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به: أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت.
وما عرفت من الحكمة: عرفته.
وما خفي عنها: لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك " انتهى. "شرح الطحاوية" (1/341).
ثانيا:
الله سبحانه وتعالى خلق الحياة على هذا الوجه، لابتلاء العباد واختبار صدق إيمانهم، وحسن عملهم.
قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الملك/1 – 2.
ومن أبواب الابتلاء، الابتلاء بالشبهات، فالله تعالى قد جعل في أمره وخلقه، ما هو مشتبه في نفسه، متشابه على المكلف؛ إذا لم يتعامل معه العبد بالوجه الذي أرشد إليه الشرع، وهو أن يفهم المتشابه على ضوء الأصول الواضحة الثابتة.
فمن خالف ذلك، وتمسك بالمتشابه، وشكك به في الأصول الواضحة: فقد زاغ وضل.
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ... .
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ رواه البخاري (4547)، ومسلم (2665).
والإنسان إذا تدبر في الكون وتفكر فيه، رأى أن كل ما استطاع فهمه من الأسرار التي بثت فيه، ليس فيها إلا الحكم والفوائد العظيمة، وهذا واضح لكل منصف؛ خاصة في هذا العصر المسمى بعصر الاكتشافات العلمية.
والعاقل: يقيس ما جهله من حكم الله تعالى في خلقه، على ما قد علمه وعقله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فكل ما فعله، علمنا أن له فيه حكمة؛ وهذا يكفينا من حيث الجملة، وإن لم نعرف التفصيل.
وعدم علمنا بتفصيل حكمته، بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته؛ وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا، وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا، فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه = فكذلك نحن نعلم أنه " حكيم " فيما يفعله ويأمر به. وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات، لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته؛ فلا نكذب بما علمناه من حكمته، ما لم نعلمه من تفصيلها " انتهى. "مجموع الفتاوى" (6 / 128).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وليس في الحكمة إطلاع فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد، حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، وتأمل أحوال محال ذلك، واستدل بما علمه على ما لم يعلمه، وتيقن أن مصدر ما علم وما لم يعلمه لحكمة بالغة لا توزن بعقول المخلوقين= فقد وُفِّق للصواب " انتهى. "مختصر الصواعق المرسلة" (ص 233).
وينظر: "شرح الطحاوية" لابن أبي العز (2/650).
ثالثا:
إن المتفكر في عالم الحيوانات، يرى أن الله تعالى قد أحاطها بنعمه ورحمته، فلم يخلق منها مخلوقا إلا وقد أحاطه ببيئة تلائم طبعه ورزقه، ومن كانت شدة الحرارة أو البرودة تضره، أو تؤثر في مطعمه، هداه إلى الهجرة، فيهاجر من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن جنوبها إلى شمالها، لا يضل الطريق؛ مصداقا لقول الله عز وجل: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى طه /50.
وحتى إنك ترى عالم الحيوانات الوحشية المفترسة، قد بث الله تعالى بلطفه رحمةُ بين أفرادها يتراحمون بها رغم توحشهم.
وفي وسط هذه النعم المتتابعة، قد تقع الآلام عارضة، وكثير من هذه الآلام تجدها مما يعود على المتألم بالنفع.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وهو سبحانه وتعالى قد أحسن كل شيء خلقه، وقد أتقن كل ما صنع، وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة، ويتفاوتون في العلم بتفاصيله.
وإذا عُرِف ذلك؛ فالآلام والمشاق: إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولّدها عن لذّات ونِعَم، يولّدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن يكون من لوازم العدل، أو لوازم الفضل والإحسان، فيكون من لوازم الخير التي إن عُطِّلت عُطِّلت ملزوماتها، وفات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام، والشرع والقدر أعدل شاهدين بذلك.
فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى...
وكثيرا ما تكون الآلام أسبابا لصحة، لولا تلك الآلام لفاتت، وهذا شأن أكثر أمراض الأبدان...
وما ينال الحيوانات غير المكلفة منها، فمغمور جدّا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها، كما ينالها من حرّ الصيف وبرد الشتاء، وحبس المطر والثلج، وألم الحمل والولادة، والسعي في طلب أقواتها، وغير ذلك، ولكن لَذَّاتُها أضعافُ أضعافِ آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام.
فسنّة الله في خلقه وأمره، هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزّته، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها، لعجزوا عن ذلك، وقيل لكل منهم: ارجع بصر العقل؛ هل ترى من خلل؟ ثم ارجع البصر كَرّتين، ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ... " انتهى. "شفاء العليل" (2/ 283 - 285).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، بعد حكاية اختلاف الناس في باب "الحكمة والتعليل":
" وعلى القول الأول ــ قول السلف والأئمة والجمهور ــ فإذا خَلَق ما خلق لحكمةٍ يحبّها ويرضاها، وخلقَ ما خلقه من الشرّ فلِما له في ذلك من الحكمة= لم يمتنع أن يكون فيما خلقه ضررٌ ما على بعض المخلوقات، إذ كان ذلك من لوازم الحكمة المرادة، وامتنع وجود الحكمة المرادة بدون ذلك. وإذا كان العبد لا يقبح منه إيلام الحيوان لحكمةٍ راجحة، فالخالق أولى أن لا يقبُح منه ذلك.
وإذا قيل: فقد كان يمكن وجود الحكمة بدون ذلك.
قيل: هذا قولٌ بلا علم، فمن أين لكم ذلك؟ وهو سبحانه وتعالى على كلِّ شيء قدير، والممتنع ليس بشيء باتفاق العقلاء.
فمن أين علمتم أن ذلك ممكن غير ممتنع، حتى تناوله القدرة؟
وعدمُ العلم بالامتناع، غيرُ العلم بعدم الامتناع، وكذلك عدم العلم بالإمكان، غير العلم بعدم الإمكان، وعدم العلم بالوجوب غير العلم بعدم الوجوب. ونظائر هذا متعددة.
ولكن كثير من الناس يشتبه عليهم هذا، فإذا لم يعلم أحدهم أنَّ الشيء موجود، أو واجبٌ، أو ممكنٌ، أو ممتنعٌ = ظنَّ أنه غير موجود، أو غير واجب ممكن، أو غير ممتنع؛ فيجعلون عدم العلم علمًا بالعدم! وهذا مما نهى الله عنه بقوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].
ولهذا كان النافي عليه الدليل، وأما المانع المطالب بالدليل؛ فليس عليه دليل، لأن النافي نفى وأخبر بالنفي، فليس له أن ينفي بلا علم، كما ليس له أن يُثبت بلا علم، بخلاف المانع المطالب، فإنه لم ينف ولم يثبت، بل طالب المثبت بدليل الإثبات والإنسان ليس له أن يتكلم بلا علمٍ، لا في النفي ولا في الإثبات، ولو سكت من لا يدري قلَّ الخلاف. فهذا هذا، والله أعلم". انتهى، من "جامع المسائل" (7/390-391).
الخلاصة:
من شأن العبد أن يلاقي في دنياه ما يستشكله من أمور في القدر والخلق، فلم يعط الله تعالى للعقل قدرة أن يحيط بكل شي علما، وسبيل المؤمن الموفق في مثل هذه المسائل أن يعتصم بإيمانه بأن الله كامل العلم والحكمة والرحمة والعدل، وأن يقيس ما يجهله من الحكم على ما علمه وتيقنه من أن في كل شيء حكمة بالغة.
كما قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله تعالى:
" إيلام البهائم قبيح إن صدر من المخلوق من غير جرم أو غرض، سليم، فإن كان من الله، فلا بد له من حكمة، وإن لم نطلع عليها لقيام الدليل على عدله وحكمته " " انتهى. من تعليقه على "الإحكام في أصول الأحكام" (1 / 86).
والله أعلم.
تعليق