الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

كيف نجمع بين فرض خمس صلوات وخشية النبي صلى الله عليه وسلم أن تفرض عليهم صلاة القيام؟

505986

تاريخ النشر : 10-11-2024

المشاهدات : 506

السؤال

كيف نجمع بين فرض الله تعالى الصلوات الخمس وجعلها خمسة بعد أن كانت خمسين وبين قول النبي في صلاة التروايح ( خشيت أن تفرض عليكم)، هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى أن تكون فرضا، والله تعالى قد فرض مسبقا خمس صلوات فقط؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

روى البخاري (1129)، ومسلم (761) عن عائشَةَ أُمِّ المُؤمِنِينَ رضي الله عنها: ” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ذاتَ لَيْلَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ ناسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ القَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ قالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ. وَذَلِكَ فِي رَمَضانَ وفي رواية لهما: فَتَعْجِزُوا عَنْها.

وهذه الخشية استشكلها بعض أهل العلم، بناء على أنه ورد الوعد بفرض خمس صلوات لا غير، كما روى البخاري (349)، ومسلم (163) في قصة الاسراء: عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ، قالَ: قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: … فَفَرَضَ اللَّهُ على أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ على مُوسَى، فقالَ: ما فَرَضَ اللَّهُ لَكَ على أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاةً. قالَ: فارْجِعْ إلى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذلك. فَراجَعَنِي فَوَضَعَ شَطْرَها، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَها. فقالَ: راجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ. فَراجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَها، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فقالَ: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ. فَراجَعْتُهُ، فقالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهْيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى، فقالَ: راجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي….

وأول من نقل عنه هذا الاستشكال، هو أبو سليمان الخطابي، حيث قال رحمه الله تعالى:

” فإن قيل: قد أكمل الله الفرائض، وردّ عدد الخمسين منها إلى الخمس، فكيف كان يجوز دخول الزيادة عليها؟ … ” انتهى. “أعلام الحديث” (1 / 485 – 486).

ثانيا:

وأهل العلم أمام هذا الاستشكال على رأيين:

الرأي الأول:

أنه لا إشكال بين الخبرين أصلا؛ لأنهم رأوا أن قوله:  هِيَ خَمْسٌ، وَهْيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ متعلق بالوعد بأن الخمس هي في مقام خمسين صلاة، فوعد بهذا الثواب، وأنه لا يبدّل؛ ولا يلزم من ذلك: الوعد بأن لا يزيد على الخمس شيئا من الفرائض.

ويشير إلى هذا الفهم رواية شريك عند البخاري (7517)، ففيها: قالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. قالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ.

ويشهد له أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما نصحه موسى عليه السلام بمراجعة الله تعالى بعد هذا القول، لم يعتذر بأن الله قد قطع بعدم تبديل عددها، وإنما اعتذر بقوله: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي.

قال الكرماني رحمه الله تعالى:

” قوله ( لَا يُبَدَّلُ ) أي: قال تعالى لا يبدل قول مساواة الخمس الخمسين في الثواب.

فإن قلت: لم لا يكون معناه لا تنقص عن الخمس، ولا تبدل الخمس إلى أقل من ذلك؟

قلت: لا يناسب لفظ: ( اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي ) ” انتهى. “الكواكب الدراري” (4 / 7).

وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن المعلمي، حيث قال رحمه الله تعالى:

” استشكالُ الخطَّابيّ مبنيّ على أن كلمة ( لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ ): قُصد بها القضاء على معنى قوله: ( هُنَّ خمسٌ )؛ بأنه لا يغيّر في المستقبل.

ويردّه أن عقب هذه الجملة في الحديث نفسه: ( فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى، فقالَ: راجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي ).

ولو كان معنى ما تقدم: إخبار الله عز وجل بأنّ مقدار الخمس لا يتبدّل في المستقبل؛ لعلم موسى – عليه السلام – أنه لم يبق موضع للمراجعة، ولأجاب محمد -صلى الله عليه وسلم – بما يُفْهِم ذلك، ولم يقتصر على قوله: ( اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي ) ” انتهى. “قيام رمضان – ضمن آثار المعلمي” (16 / 411).

وقال رحمه الله تعالى:

” فإن قيل: فإذا لم يتوجه قوله: ( لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ )، إلى قوله: ( هُنَّ خمسٌ )؛ فإلى ماذا يتوجّه؟

قلت: قيل بتوجّهه إلى قوله: ( وَهْيَ خَمْسُونَ )، وهذا قريب؛ لأن قوله ( وَهْيَ خَمْسُونَ ) وعد منه تعالى بأن يثيب على الخمس ثواب خمسين.

وقوله: ( لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ ) قد عرف من كتاب الله عز وجل توجّهه إلى الوعد، ونحوه.

قال تعالى: ( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ).

وقال سبحانه: ( لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ).

وفي “تفسير ابن جرير” (ج 11 ص 88): ” وأما قوله: ( لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )؛ فإن معناه: لا خُلْفَ لوعده، ولا تغيير لقوله عمّا قال “.

ولا يلزم من امتناع تغيير الخمسين ثوابا ، أن لا يزاد في المستقبل على الخمس، ويثاب على الزائد ثواب مستقلّ، ولا أن لا ينقص العدد عن خمس ويبقى الثواب خمسين.

وقيل بتوجّهه إلى ما وقع ابتداء من فرض خمسين، والمعنى: هن خمس كما أقوله الآن، وهنّ خمسون كما قلته أوّلا، وليس ما جرى من التخفيف تبديلا للقول الأول ( لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ )، ولكنه كان المراد به خمسون ثوابا، وهذا ثابت لم يبدّل ولن يبدّل.

وهذا القول هو الظاهر من العبارة ” انتهى. “قيام رمضان – ضمن آثار المعلمي” (16 / 412).

الرأي الثاني:

أن عدم التبديل متعلق بعدد الصلوات المفروضة: هِيَ خَمْسٌ، وَهْيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ،

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:

” وقوله: ( مَا يُبَدَّلُ القَولُ لَدَيَّ ): دليل على استقرار هذا العدد، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه. وهو ردّ على أبي حنيفة في حكمه بوجوب صلاة سادسة وهي الوتر … ” انتهى. “المفهم” (1 / 393).

وهذا الذي يظهر أنه يميل إليه كثير من العلماء، ولذا طال نقاشهم حول وجه الجمع بين هذا الحديث، وبين حديث صلاة الليل في رمضان: ( إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ ).

وتقرير وجه الإشكال: أن قوله تعالى: ( هِيَ خَمْسٌ، وَهْيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ ) خبر؛ والنسخ لا يدخل الأخبار؟!

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

” قوله: ( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) خبر، والنّسخ لا يدخله على الرّاجح، وليس هو كقوله مثلا لهم: صوموا الدّهر أبدا، فإنّه يجوز فيه النّسخ ” انتهى. “فتح الباري” (3 / 13).

ولأهل العلم أوجه عدة في دفع هذا الإشكال، أقواها:

الوجه الأول:

أن حديث الاسراء متعلق بالفرض ابتداء، لكن قد يفرض غيرها على وجه العقوبة، كما أن العبد إذا شدد على نفسه بنذر صلوات، وجب عليه القيام بها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:

” وأما في حديث أنس المتقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ، رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ).

ففيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة على المشروع.

والتشديد: تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب، ولا مستحب: بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات …

وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى، شدد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة…

وفيه أيضا: تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء، يكون سببا لتشديد آخر، يفعله الله: إما بالشرع، وإما بالقدر.

فأما بالشرع: فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم، كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه … ومثل: أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله، وهو منهي عن نفس عقد النذر ” انتهى. “اقتضاء الصراط المستقيم” (1 / 322).

فيحتمل أن خوف النبي صلى الله عليه وسلم من أن تفرض صلاة قيام الليل، سببه هو ما رأى من تشديد الصحابة على أنفسهم في هذا الأمر، حتى صاح بعضهم، وحصب الباب، ليخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فخاف أن يُعاقبوا بفرض هذه الصلاة.

ويدل على ذلك المحمل: رواية أخرى لهذه الحادثة حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا.

روى البخاري (6113)، ومسلم (781): عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قالَ: ” احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حجيْرَةً مُخَصَّفَةً، أَوْ حَصِيرًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاؤُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، ثُمَّ جَاؤُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا، فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ ….

وهذا أحد الأوجه التي ذكرها الخطابي، حيث قال رحمه الله تعالى:

” فإن قيل: قد أكمل الله الفرائض وردَّ عدد الخمسين منها إلى الخمس، فكيف كان يجوز دخول الزيادة عليها؟ …

وفيه وجه آخر: وهو أن الله سبحانه فرض الصلاة أول ما فرضها خمسين، ثم إنه شفَّعَ رسولَه صلى الله عليه وسلم، فحط معظمها، وجعل عزائمها خمسا؛ تخفيفا عن أمته، من أجل شفاعته ومسألته.

فإذا عادت الأمةُ فيما استوهبت، والتزمت ما كانت استعفت منه، وتبرعت بالعمل به: لم يُستَنكَر أن يثبت فرضا عليهم.

وقد ذكر الله سبحانه عن فريق من النصارى: أنهم ابتدعوا رهبانية ونسكا، ما كتبها الله عليهم، ثم لما قصروا فيها لحقهم اللائمة في قولهم: ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا )، فأشفق صلى الله عليه وسلم أن يكون سبيلُهم سبيل أولئك، فقطع العمل به تخفيفا عن أمته، والله أعلم ” انتهى. “أعلام الحديث” (1 / 485 — 486).

وقال ابن العربي رحمه الله تعالى:

” قوله: ( مَا مَنَعَنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُم إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ )، فيه لعلمائنا ثلاثُ روايات …

الثّالث: إنّ من كان قبلنا كان إذا عمل عملا لزمه، وكانت عقوبةً، فخشي النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن توخذ أمّته بذلك، والله أعلم ” انتهى. “المسالك في شرح موطأ مالك” (2 / 474).

وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:

” والفرض الذي خشيه النبي صلى الله عليه وسلم كان عقوبةً، بدليل قوله: ( وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ ).

وقد فهم البخاري ذلك، فأخرج الحديث في باب ما يكره من السؤال، وذكر معه آية: ( لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )، وحديث: ( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ ) … ” انتهى. “قيام رمضان – ضمن آثار المعلمي” (16 / 390).

وقال الشيخ عبد الله بن مانع الرّوقيّ:

” سألت شيخنا: ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمن من فرضية صلاة الليل بحادثة الإسراء، فلِمَ يقول: ( أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ )؟

الجواب: لا، لم يأمن الفرضية ” انتهى. “مسائل الإمام ابن باز – المجموعة الأولى” (ص290).

الوجه الثاني:

ذهب بعض أهل العلم إلى أن الوعد بعدم التبديل متعلق بالصلوات التي تتكرر كل يوم وليلة، ورأوا أن خشية النبي صلى الله عليه وسلم متعلقة بقيام ليل رمضان خاصة، وليس هو مما يتكرر في كل ليلة من ليالي السنة.

وهذا أحد احتمالات الحافظ ابن حجر، حيث قال رحمه الله تعالى:

” يحتمل أن يكون المخوّف افتراض قيام رمضان خاصّة، فقد وقع في حديث الباب أنّ ذلك كان في رمضان، وفي رواية سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ: ( خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ قِيَامُ هَذَا الشَّهْرِ )، فعلى هذا يرتفع الإشكال؛ لأنّ قيام رمضان لا يتكرّر كلّ يوم في السّنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس” انتهى “فتح الباري” (3 / 14).

وهذا الجواب تتابع عليه عدد من فقهاء الشافعية.

فنص عليه ابن حجر الهيتمي، ونقل الشرواني عن شيخه استحسانه.

جاء في “تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي” (2 / 240):

” ( ونفي الزيادة ليلة الإسراء: نفي لفرض متكرر مثلها؛ فلم ينافِ خشية فرض هذه ) …

عبارة شيخنا: واستُشكِل قوله صلى الله عليه وسلم: ( خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ )، بقوله تعالى في ليلة الإسراء: ( هُنَّ خمسٌ، والثواب خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ )؟

وأجيب بأجوبة، أحسنُها: أن ذلك في كل يوم وليلة؛ فلا ينافي فرضية غيرها في السنة. اهـ ” انتهى.

وكذا قال الخطيب الشربيني رحمه الله تعالى:

” … أو يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة؛ لأن ذلك كان في رمضان.

وعلى هذا يرتفع الإشكال؛ لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس ” انتهى. “مغني المحتاج” (1 / 460).

وقال أبو الحسن السندي رحمه الله تعالى:

” لعل عدم التبديل راجع إلى مساواة كل واحد من الخمس عشرا لا إلى عدد خمس، وهذا هو المعنى الذي يقتضيه آخر الحديث عند صحيح التأمل.

ولو سلم؛ فلا يلزم من فرضية قيام رمضان، زيادة على خمس صلوات في المفروض كل يوم، والله تعالى أعلم ” انتهى. “فتح الودود” (2 / 94).

الوجه الثالث:

أن الذي خشي أن يفرض ليس ذات صلاة القيام، وإنما اشتراط الجماعة لصحتها.

واستأنس من قال بهذا القول، بما ورد في الحديث من الأمر بالصلاة في البيوت، كما في حديث زيد السابق عند البخاري (6113)، ومسلم (781): مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ.

وهو الذي قوّاه الحافظ ابن حجر، حيث قال رحمه الله تعالى:

” وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى:

أحدها: يحتمل أن يَكون المخوّف افتراض قيام اللّيل، بمعنى جعل التّهجّد في المسجد جماعة شرطا في صحّة التّنفّل باللّيل. ويومئ إليه في قوله في حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: ( حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُم ). فمنعهم من التّجميع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم…

وأقوى هذه الأجوبة الثّلاثة – في نظري – الأوّل، واللّه سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب ” انتهى. “فتح الباري” (3 / 14).

وقوّاه الشيخ محمد بن علي بن آدم الإتيوبي، حيث قال رحمه الله تعالى:

” هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله من كون هذا الجواب هو الأقوى، هو الذي لا يظهر لي غيره، فهو أقوى الأجوبة المتقدّمة كلّها … ” انتهى. “البحر المحيط الثجاج” (15 / 685).

الخلاصة:

يتلخص من الأقوال السابقة جميعها أنّ قوله تعالى في حديث الاسراء: ( هِيَ خَمْسٌ، وَهْيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ ) ليس نصا في عدم افتراض فرائض أخرى، ويومئ إليه اعتذار النبي صلى الله عليه وسلم عن مراجعة ربه بقوله: ( اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي ).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب