الخميس 23 ربيع الأوّل 1446 - 26 سبتمبر 2024
العربية

أول ما يرفع من هذه الأمة، هل الخشوع أو الإمانة؟

519289

تاريخ النشر : 08-09-2024

المشاهدات : 800

السؤال

ما هو أول شيء يرفع من هذه الأمة، سمعت أنه الخشوع، وسمعت أنه الأمانة، فما هو الجواب؟

ملخص الجواب

كل ما روي في هذا الباب مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يخلو من ضعف، وإنما ورد في ذلك آثار عن بعض الصحابة، وفيها اختلاف بين القول بأنه الخشوع أو الأمانة، ولعل الخشوع أول علم يرفع، ثم أول عمل يلحقه هو الأمانة.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

وردت عدة آثار تنص على أن أول ما يرفع الخشوع.

فقد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث: أبي الدرداء، وأبي هريرة، وأنس، وشداد بن أوس رضي الله عنهم أجمعين.

فأما حديث أبي الدرداء رضي الله عنه:

فرواه الطبراني في “مسند الشاميين” (2 / 400)، قال: حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَدَّادُ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخُشُوعُ حَتَّى لَا يُرَى فِيهِ خَاشِعًا.

قال الهيثمي رحمه الله تعالى:

” رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن ” انتهى. “مجمع الزوائد” (2 / 136).

لكن في إسناده فرج بن فضالة التنوخي، وهو ضعيف الحديث.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

” فرج بن فضالة الحمصي عن ربيعة بن يزيد: ضعفوه، وقوى أحمد أمره ” انتهى. “المغني” (2 / 509).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

” فَرَج بن فَضَالة بن النّعمان التَّنُوخي، الشامي: ضعيف ” انتهى. “التقريب” (ص 444).

وقد رواه أبو نعيم في “الحلية” من طريق فرج بن فضالة، فجعله من كلام أبي إدريس الخولاني.

روى أبو نعيم في “الحلية” (5 / 124)، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخُشُوعُ حَتَّى لَا تَرَى خَاشِعًا.

وأما حديث أنس رضي الله عنه:

فرواه الدولابي في “الكنى والأسماء” (3 / 968): عن يَحْيَى بْن سَعِيدٍ الْعَطَّار، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زَيْدَلٍ أَبُو مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:  أَوَّلُ شَيْءٍ يُرْفَعُ مِنْ أُمَّتِي الْخُشُوعُ. قُلْتُ: مَا الْخُشُوعُ؟ قَالَ: خَوْفُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ.

وهذا إسناد ضعيف جدا، فالعلاء بن زيدل متروك الحديث.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

” العلاء بن زيد، ويقال: زَيْدَل، الثقفي، أبو محمد البصري: متروك، ورماه أبو الوليد بالكذب ” انتهى. “التقريب” (ص 435).

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

فرواه الدارقطني “الأفراد” (ص174): عن ابْن الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عن يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ عن هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخُشُوعُ.

وهذا حديث ضعيف الإسناد أيضا، لأن في إسناده يحيى بن عبيد الله متروك الحديث.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

” يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن مَوْهَب، التّيمي، المدني: متروك، وأفحش الحاكم فرماه بالوضع ” انتهى. “التقريب” (ص 594)

وأما حديث شداد بن أوس رضي الله عنه:

فرواه الطبراني في “المعجم الكبير” (7 / 354): عن مُهَلَّب بْنِ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ بَيَانٍ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:  أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ.

وعمران قد ضعفه عدد من أئمة الحديث.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

” عمران بن داور أبو العوام القطان، عن الحسن: صدوق، ضعفه يحيى والنسائي ” انتهى. “المغني” (2 / 478).

وشعيب بن بيان له مناكير في حديثه.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

شعيب بن بيان الصفار، عن شعبة: صدوق.

وقال الجوزجاني: له مناكير. وقال العقيلي: يحدث عن الثقات بالمناكير. كاد أن يغلب على حديثه الوهم ” انتهى. “ميزان الاعتدال” (2 / 254).

ومهلب بن العلاء مجهول.

ثم قد رواه الطبراني بنفس الإسناد لكن بلفظ الأمانة: إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ ! كما سيأتي.

ورواه أبو نعيم في “تاريخ أصبهان” (2 / 310)، وأبو الشيخ في “طبقات المحدثين” (3 / 421) من وجه آخر: عن حُسَام بْنِ مِصَكٍّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:  أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ  .

وحسام بن مصك متروك الحديث.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

” حسام بن مصك عن الحسن، وغيره.

قال الدارقطني: متروك. وقال يحيى: لا شيء. وتركه أحمد ” انتهى. “المغني” (1 / 155).

وقال ابن عدي رحمه الله تعالى:

” وقال عمرو بن علي: حسام بن مصك، يكنّى بأبي سهل، رجل من الأزد: منكر الحديث، متروك الحديث، روى عن الحسن، عَن شداد بن أوس عن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:  أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ” انتهى. “الكامل” (4 / 173).

وقد صحّ ذلك موقوفا من قول شداد بن أوس رضي الله عنه.

رواه الإمام أحمد في “المسند” (39 / 417)، والبخاري في “خلق أفعال العباد” (ص79)، والنسائي في “السنن الكبرى” (5 / 392) ، وغيرهم: عن إِبْرَاهِيم بْن أَبِي عَبْلَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ، أَنَّهُ قَالَ: ” بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ:هَذَا أَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يُرْفَعَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: أَيُرْفَعُ الْعِلْمُ يَا رَسُولَ اللهِ وَفِينَا كِتَابُ اللهِ، وَقَدْ عَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ ضَلَالَةَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا مَا عِنْدَهُمَا مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل”.

فَلَقِيَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ بِالْمُصَلَّى، فَحَدَّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ: صَدَقَ عَوْفٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ تَدْرِي مَا رَفْعُ الْعِلْمِ؟

قَالَ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي.

قَالَ: ذَهَابُ أَوْعِيَتِهِ.

قَالَ: وَهَلْ تَدْرِي؛ أَيُّ الْعِلْمِ أَوَّلُ أَنْ يُرْفَعَ؟

قَالَ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي.

قَالَ:  الْخُشُوعُ، حَتَّى لَا تَكَادُ تَرَى خَاشِعًا”.

قال الحافظ المنذري، رحمه الله، عقب حديث أبي الدرداء السابق: ” ورواه ابن حبان في “صحيحه” في آخر حديث موقوفاً على شداد ابن أوس.

ورفعه الطبراني أيضاً، والموقوف أشبه”. انتهى، من “الترغيب والترهيب” (1/351).

وورد أيضا موقوفا من قول حذيفة رضي الله عنه:

رواه الآجري في “الشريعة” (1 / 322)، ومن طريقه رواه الداني في “السنن الواردة في الفتن” (3 / 534):

عن هِشَام بْن عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الصُّنَابِحِيّ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: ” لَتَتَّبِعُنَّ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، لَا تُخْطِئُونَ طَرِيَقَتَهُمْ، وَلَا تُخْطِئَنَّكُمْ، وَلَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً فَعُرْوَةً، وَيَكُونُ أَوَّلَ نَقْضِهَا الْخُشُوعُ حَتَّى لَا تَرَى خَاشِعًا … “.

وفيه هشام بن عمار، وهو لما كبر صار يلقن فيتلقن.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

” هشام بن عمّار بن نُصَير، السُّلَمي، الدمشقي، الخطيب: صدوق مقرئ، كَبِر فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ ” انتهى. “تقريب التهذيب” (ص 573).

وعبد الحميد بن حبيب: وثّقه بعضهم وضعفه آخرون، له أوهام ومخالفات.

قال ابن عدي رحمه الله تعالى:

” قال البخاريّ: عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبو سعيد، كاتب الأوزاعيّ: شامي، ربما يخالَف في حديثه.

وعبد الحميد كما ذكره البخاريّ: تفرد عن الأوزاعيّ بغير حديث لا يرويه غيره، وهو ممن يُكتب حديثه ” انتهى. “الكامل” (8 / 478).

وقد خولف في إسناده عن الأوزاعي.

فرواه الداني في “السنن الواردة في الفتن” (3 / 605): عَنْ مُوسَى بْن أَعْيَنَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، عَنِ الصُّنَابِحِيّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: ” وَلَتُنْتَقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً ، وَيَكُونُ أَوَّلَ نَقْضِهِ الْخُشُوعُ ، حَتَّى لَا تَرَى خَاشِعًا “.

وقد ورد عن الأزواعي من وجه آخر، لكنه من غير محل الشاهد: “أَوَّلَ نَقْضِهِ الْخُشُوعُ “.

فالحاصل: أن إسناده إلى حذيفة من طريق الأوزاعي مضطرب، ولا يخلو رواته من مقال أو جهالة.

وقد ورد بإسناد آخر عن حذيفة، رواه الإمام أحمد في “الزهد” (ص147)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (19 / 426)، والدولابي في “الكنى والأسماء” (2 / 418)، وغيرهم: عن عِكْرِمَة بْن عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفِلَسْطِينِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخِي حُذَيْفَةَ [ وفي بعض الطرق: ابن أخ لحذيفة ]، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: ( أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ ).

وفيه أبو عبد الله الفلسطيني وعبد العزيز: مجهولا الحال.

فالحاصل:

أنّ هذا الخبر: صحيح عن شدّاد بن أوس، موقوفا عليه: أنّ الخشوع أوّل علم يرفع.

وورد عن غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أيضا.

فقد يقال هنا: إن ذلك إخبار عن أمر غيبي متعلق بهذه الأمة، لا سبيل إلى العلم به إلا بالوحي، فهو في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. لا سيما وقد ورد ذلك عن غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل ورد مرفوعا، صريحا، من طرق أخرى.

ثانيا:

الخشوع من علوم القلب؛ لأنه كمال معرفة وعلم بالله تعالى وعظمته، ينتج في القلب خشية وتعظيما لأمر الله تعالى، وتذللا له، خاصة عند القيام بين يديه في الصلاة.

قال الطحاوي رحمه الله تعالى:

” والخشوع الذي أراد شداد في هذا الحديث، والله أعلم: هو الإخبات والتواضع والتذلل لله عز وجل ” انتهى. “شرح مشكل الآثار” (1 / 281).

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

” أصل الخشوع: السكون، والطمأنينة، والانخفاض…

وهو في الشرع: خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح ” انتهى. “أضواء البيان” (5 / 825).

ولذلك عد الخشوع من أعظم علوم القلب.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى معلقا على أن الخشوع أول علم يرفع:

” لأنّ العلم، قسمان:

أحدهما: ما كان ثمرته في قلب الإنسان، وهو العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله المقتضية لخشيته، ومهابته، وإجلاله، والخضوع له، ولمحبّته، ورجائه، ودعائه، والتوكّل عليه، ونحو ذلك، فهذا هو العلم النافع …

والقسم الثاني: العلم الذي على اللّسان، وهو حجّة الله كما في الحديث: ( الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ )، فأوّل ما يرفع من العلم: العلم النّافع، وهو العلم الباطن الّذي يخالط القلوب ويصلحها، ويبقى علم اللّسان حجّة، فيتهاون الناس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم … ” انتهى. “جامع العلوم والحكم” (2 / 299).

وقال ابن رجب أيضا:

” فالعلم النافع ما عرف بين العبد وربه ودل عليه، حتى عرف ربه ووحده، وأنس به، واستحيا من قربه، وعبده كأنه يراه.

ولهذا قالت طائفة من الصحابة: إن أول ‌علم ‌يرفع من الناس: ‌الخشوع”. انتهى، من “رسائل ابن رجب” (3/28).

ثالثا:

وأما أن الأمانة أول ما يرفع: فقد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث: عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وعائشة، وأنس، وشداد بن أوس رضي الله عنهم أجمعين.

فأما حديث عمر رضي الله عنه:

فقد رواه الطبراني في “المعجم الصغير” (1 / 238)، والبيهقي في “شعب الإيمان” (7 / 215)، وإسماعيل الأصبهاني في “الترغيب والترهيب” (1 / 175 — 176)، وغيرهم: عن الْمُعَافَى بْن سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:  أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْأَمَانَةُ ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى الصَّلَاةُ …   .

وقال الطبراني:

” لم يروه عن يحيى بن سعيد إلّا حكيم بن نافع، تفرّد به المعافى، ولا يروى عن عمر إلّا بهذا الإسناد ” انتهى.

وفيه حكيم بن نافع، وقد ضُعِّف.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

حكيم بن نافع الرقي: عن صغار التابعين، ضعفوه ” انتهى. “ديوان الضعفاء” (ص99).

وجاء في “لسان الميزان” (3 / 262 – 263):

حكيم بن نافع الرقي، يروي عن صغار التابعين.

قال أبو زرعة ليس بشيء…

وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال مرة ثقة…

وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث. وقال السّاجي: عنده مناكير ” انتهى.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

فرواه ابن أبي الدنيا في “مكارم الأخلاق” (ص 88)، والخرائطي في “مكارم الأخلاق” (2 / 544)، والبيهقي في “شعب الإيمان” (7 / 216): عَنْ قَزَعَة بْنِ سُوَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، قال لقيتُ شَيْخًا بأيلة [ وعند ابن أبي الدنيا: مَرَرْتُ عَلَى أَعْرَابِيٍّ بِالْجَدِيلَةِ. وعند الخرائطي: مَرَرْتُ عَلَى غَازٍ بِالْجَدِيلَةِ]، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:  إِنَّ أَوَّلَ مَا يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ الحيَاءُ وَالأَمَانَةُ، فَسَلُوهُمَا اللَّهَ عز وجل .

وفي إسناده قزعة بن سويد: ضعيف الحديث.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

” قَزَعَة، ابن سُوَيد بن حُجَيْر، الباهلي، أبو محمد البصري: ضعيف ” انتهى. “تقريب التهذيب” (ص 455).

وورد من طريق آخر عن أبي هريرة عند أبي يعلى في “المسند” (9 / 37): عن أَشْعَث بْن بَرَازٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ الحيَاءُ وَالأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى مِنْهَا الصَّلاةُ – يُخَيَّلُ إِلَيَّ أْنْ قَالَ: – وَقَدْ يُصَلِّى قَوْمٌ لا خَلاقَ لَهُمْ  .

وفي إسناده أشعث: وهو متروك الحديث.

قال الهيثمي رحمه الله تعالى:

” رواه أبو يعلى، وفيه أشعث بن براز وهو متروك ” انتهى. “مجمع الزوائد” (7 / 321).

وأما من حديث عائشة رضي الله عنها:

فرواه العقيلي في “الضعفاء الكبير” (2 / 591 — 592): عن سَلَّام بْن وَاقِدٍ الْمَرْوَزِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى الصَّلَاةُ، وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا خَلَاقَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

ثم قال العقيلي: ” فَلَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ تَثْبُتُ ” انتهى.

فهو من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، وهو ضعيف الحديث.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

” محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي: ضعفوه، وبعضهم تركه ” انتهى. “المغني” (2 / 596).

ومثله الراوي عنه سلام بن واقد.

قال الذهبي رحمه الله تعالى:

” سلام بن واقد المروزي: لا شيء ” انتهى. “المغني” (1 / 272).

وأما من حديث أنس رضي الله عنه:

فقد رواه البخاري في “التاريخ الكبير” (2 / 158)، والخرائطي في “مكارم الأخلاق” (1 / 338)، وغيرهما: عن أَبي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيّ مُوسَى بْن إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا تَوَّابُ بْنُ حُجَيْلٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُهُ الصَّلَاةُ ).

وفي إسناده تواب بن حجيل: مجهول الحال، ذكره البخاري في “التاريخ الكبير” (2 / 158) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وكذا ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (2 / 471) ولم يذكر في ترجمته شيئا.

وأما حديث شداد بن أوس رضي الله عنه:

فرواه الطبراني في “المعجم الكبير” (7 / 353 – 354)، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الرَّاسِبِيِّ، حَدَّثَنَا مُهَلَّبُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ بَيَانٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ .

وقد سبق بيان ضعفه، وأن الطبراني رواه بنفس الإسناد، لكن بلفظ الخشوع!

وأقوى ما ورد في هذا، ما روي عن ابن مسعود موقوفا عليه من قوله رضي الله عنه:

رواه سعيد بن منصور في “السنن” (2/ 335)، ونعيم بن حماد في “الفتن” (2 / 603)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (20 / 145)، وابن أبي الدنيا في “مكارم الأخلاق” (ص 90)، وغيرهم: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: “أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى الصَّلَاةُ”.

ورواه ابن أبي شبية في “المصنف” (20 / 156)، وابن أبي الدنيا في “مكارم الأخلاق” (ص89): عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَانِئٍ أَبِي الزَّعْرَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: “أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةُ “.

فرواه عن ابن مسعود: شداد بن معقل، وأبو الزعراء.

فأما شداد بن معقل: فمجهول الحال، لم يرد فيه توثيق معتبر إلا ذكر ابن حبان له في الثقات.

قال مغلطاي رحمه الله تعالى:

” شداد بن معقل الكوفي.

قال ابن سعد لما ذكره في “الطبقات”: شداد بن معقل الأسدي، روى عن علي، وعبد اللَّه، وكان قليل الحديث.

وخرج ابن حبان حديثه في “صحيحه”، ونسبه في “الثقات” كذلك، وكذلك الحاكم، والدارمي، خرجا حديثه ” انتهى. “إكمال تهذيب الكمال” (4 / 20).

وأما الهيثمي فقد وثقه، كما في “مجمع الزوائد” (7 / 330).

وأبو الزعراء، فيه كلام، ووثقه ابن سعد “الطبقات” (8 / 291)، والعجلي “الثقات” (2 / 65).

وقال العقيلي رحمه الله تعالى:

” عبد اللّه بن هانئ أبو الزّعراء سمع ابن مسعود، وفيه كلام ليس في حديث النّاس. حدّثني آدم قال: سمعت البخاريّ قال: عبد اللّه بن هانئ أبو الزّعراء الكنديّ كوفيٌ سمع ابن مسعود، سمع منه سلمة بن كهيل في الشّفاعة، ولا يتابع على حديثه ” انتهى. “الضعفاء الكبير” (3 / 355).

وقال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:

” عبد الله بن هانئ الأزدي أبو الزعراء الكوفي الكندي، وهو خال سلمة بن كهيل؛ سمع من ابن مسعود، سمع منه سلمة بن كهيل. سمعت أبي يقول ذلك.

سمعت أحمد بن منصور الرمادي، قال: سمعت علي بن عبد الله يقول: لا أعلم روى عن أبي الزعراء إلا سلمة بن كهيل، وعامة رواية أبي الزعراء عن عبد الله، واسمه عبد الله ابن هانئ ” انتهى. “الجرح والتعديل” (5 / 195).

رابعا:

على القول بتحسين إسناد قول ابن مسعود رضي الله عنه – أن الأمانة أول ما يفقد من الناس – : فلا تعارض بينه وبين قول شداد بن أوس رضي الله عنه.

لأن قول شداد عن أول علم يرفع، وقول ابن مسعود عن الأعمال والأخلاق.

وقد وردا مقترنين في أنهما أول ما يرفع، لكن في حديث ضعيف، رواه ابن المبارك في “الزهد” (ص56):

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: الْأَمَانَةُ، وَالْخُشُوعُ، حَتَّى لَا تَكَادَ تَرَى خَاشِعًا.

لكنه مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف الحديث.

والخشوع الذي فيه تعظيم لله تعالى ولشرعه وأمره والخشية منه سبحانه وتعالى، إذا غاب من القلب تجرأ العبد على المظالم.

قال الطحاوي رحمه الله تعالى:

” وإذا لم يكن معهم الخشوع؛ كانت معهم القسوة والاستكبار ونعوذ بالله من ذلك ” انتهى. “شرح مشكل الآثار” (1 / 283).

والصلاة الكاملة الخاشعة: تنهى صاحبها عن الفواحش والمنكرات.

قال الله تعالى:

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ  العنكبوت /45.

والإنسان مجبول على الحرص وحب الخير لنفسه والأثرة، فإذا لم تقم بقلبه خشية الله تعالى والخشوع له: لم يبال بحقوق الآخرين، ومن قام في قلبه الخشوع خاصة في صلاته، راعى الحقوق والواجبات.

قال الله تعالى:

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ  المعارج/19 – 23.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

” ( وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) أي: إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله فيها…

ثم قال: ( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) أي: الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم؛ إلا من عصمه الله ووفقه، وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه، وهم المصلون ( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ )، قيل: معناه يحافظون على أوقاتهم وواجباتهم. قاله ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم النخعي.

وقيل: المراد بالدوام هاهنا السكون والخشوع، كقوله: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ). قاله عقبة بن عامر… ” انتهى. “تفسير ابن كثير” (7 / 381).

الخلاصة:

المرويات الواردة في أول ما يرفع: هل الخشوع أو الأمانة؟

ما ورد منها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: لا يخلو من ضعف.

والثابت في الخشوع، أنه موقوف على شداد بن أوس رضي الله عنه.

وقد يقال: إنه في حكم المرفوع؛ لأنه إخبار عن أمر غيبي لا يعلم إلا بالوحي. وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الأمانة: فأقوى ما ورد فيها قول ابن مسعود رضي الله عنه، ولا تخلو أسانيده من كلام.

وعلى القول بثبوت الأثرين: فالجمع بينهما أن الخشوع أول علم قلبي يرفع، ويتبع ذلك عدم الخشية من الله تعالى، واتباع الإنسان لنفسه في حرصها وشحها وأثرتها، وهذا يؤدي بالإنسان إلى المظالم وعدم حفظ الأمانات.

فيكون الخشوع أول علم يرفع، وأول عمل يلحقه هو الأمانة، فتكون هي أول عمل وخلق يرفع.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب