الأربعاء 27 ربيع الآخر 1446 - 30 اكتوبر 2024
العربية

ما هي الشفاعة المنفية والشفاعة المثبتة في القرآن؟

534052

تاريخ النشر : 03-10-2024

المشاهدات : 659

السؤال

عندي شبهة عن الجمع بين هذين الآيتين:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا).
ظاهر الآية الأولى هو النفي الكلي للشفاعة، ولكن الآية الثانية تثبتها، وعند قراءتي لهذه الآيات تكثر عندي الشبهات حول ما إن كانت هذه الآيات تتناقض مع بعضها، وأسأل نفسي لماذا لم توضح الآية الأولى وجود الشفاعة، أستعيذ بالله من ذلك، ولكن لم أهتدى لطريقة الجمع بين الآيتين،

ملخص الجواب

الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة بغير إذنه، أو يقال: الشفاعة المنفية ما كانت لغيره مطلقا، فالشفاعة له سبحانه، يأذن فيها لمن يشاء بعد رضاه عن الشافع والمشفوع له، وهو إذا أذن فيها كانت له ولم تكن لغيره.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

القرآن لا تناقض فيه ولا اختلاف؛ لأنه كلام الله تعالى، ومن علم عظمة الله وقدرته، مع كمال علمه وإحاطته: أيقن أن كلامه لن يختلف، وأنه لن ينزل كتابا ينقض بعضه بعضا، وما الداعي لأن ينزل العليم الخبير كلاما يخالف بعضه بعضا؟!

قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء/82.

ولكن القرآن جارٍ على لسان العرب، وطرائقها في البيان، وبالغ في الفصاحة غايتها، فيستعمل العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، كل في موضعه لحكمة.

ثانيا:

الشفاعة نفاها القرآن في مواضع، وأثبتها في مواضع، فالشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة دون إذنه.

والشفاعة المثبتة هي الشفاعة للمؤمنين، بعد إذنه للشافع ورضاه عن الشافع والمشفوع له.

فإذا أطلق في موضع نفي الشفاعة، حمل ذلك على ما بُين في مواضع أخرى، من أن المراد الشفاعة للكفار، أو الشفاعة للمؤمنين دون إذنه ورضاه.

ولك أن تقول: الشفاعة لغيره كلها منفية، فليس ملك الشفاعة لأحد من الخلائق، حتى يتصرف فيها بما شاء، ويشفع فيمن شاء، ويدع من شاء.

والشفاعة المثبتة: إنما هي لله، فهو المالك، المدبر، المتصرف، ومن تمام ملكه، وعظمته: أن يأذن لمن شاء من عباده، في أن يشفع فيمن شاء من عباده. وسواء أكان الشافع ملكا، مقربا، أو نبيا مرسلا، أو عبدا من عباد الله الصالحين؛ فلا أحد من هؤلاء يملك من أمر الشفاعة شيئا؛ إلا أن يأن الله لمن يشاء ويرضى.

قال الله تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الزمر/44

وقال تعالى: (وَكَم مِّن مَّلَكٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لَا تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ أَن يَأۡذَنَ ٱللَّهُ لِمَن ‌يَشَآءُ ‌وَيَرۡضَىٰٓ) النجم/26.

فهو مالك الشفاعة، ولا يملكها غيره، ثم هو سبحانه يأذن فيها لمن شاء، إذا رضي عنه، ورضي عن المشفوع له، وهو لا يرضى عن الكفار، ولا يأذن لأحد في الشفاعة لهم، وهذا اختيار شيخ الإسلام في توجيه آيات نفي الشفاعة، كما سيأتي.

ففي الشفاعة المنفية: قال الله تعالى: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) المدثر/43-48

وقال: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) الأنعام/70.

وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) الأعراف/53.

وقال: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) غافر/18.

وفي الشفاعة المثبتة، قال الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) يونس/3.

وقال: (لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) مريم/87.

وقال: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) طه/109.

وقال: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء/28.

وقال: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) سبأ/23.

وقال: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الزخرف/86.

وفي نفي الشفاعة المطلق، قال الله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) البقرة/48.

وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) البقرة/254.

وقد جاء في الآية بعدها: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) البقرة/255.

فختام الآية الأولى (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وتقييد الشفاعة بالإذن، مفهمٌ أن الشفاعة المنفية هي ما كانت للكفار، أو كانت بغير إذنه.

قال ابن عطية رحمه الله في تفسيره (4/ 358): ” ونفي «الشفاعة» محمول على أحد وجهين: إما عن الكفرة، وإما نفي الشفعاء من ذاتهم على حد شفاعة الدنيا؛ لأن شفاعة الآخرة إنما هي بعد إذن من الله تعالى” انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء، فيقبل شفاعته.

فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع؛ لم يكن مستقلا بالشفاعة، بل يكون مطيعا له، أي تابعا له في الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولة، ويكون الأمر كله للآمر المسئول.

وقد ثبت بنص القرآن في غير آية: أن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه. كما قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}، وقال: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}، وقال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}، وأمثال ذلك.

والذي يبين أن هذه هي الشفاعة المنفية: أنه قال: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون}، وقال تعالى: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع}، فأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع.

وأما نفي الشفاعة بدون إذنه: فإن الشفاعة إذا كانت بإذنه لم تكن من دونه، كما أن الولاية التي بإذنه ليست من دونه؛ كما قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} .

وأيضا فقد قال: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون. قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض}؛ فذم الذين اتخذوا من دون الله شفعاء، وأخبر أن لله الشفاعة جميعا.

فعُلم أن الشفاعة منتفية عن غيره؛ إذ لا يشفع أحد إلا بإذنه، وتلك: فهي له” انتهى من “مجموع الفتاوى” (1/ 118).

وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله في “أضواء البيان” (1/ 35): ” قوله تعالى: (ولا يقبل منها شفاعة) الآية، ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقا يوم القيامة، ولكنه بين في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السماوات والأرض.

أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) ، وقد قال: (ولا يرضى لعباده الكفر) ، وقال تعالى عنهم مقررا له: (فما لنا من شافعين) ، وقال: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [74 \\ 48] إلى غير ذلك من الآيات.

وقال في الشفاعة بدون إذنه: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ، وقال: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) ، وقال: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) إلى غير ذلك من الآيات. وادعاء شفعاء عند الله للكفار أو بغير إذنه، من أنواع الكفر به جل وعلا، كما صرح بذلك في قوله: (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما) .

تنبيه: هذا الذي قررناه من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعا مطلقا، يستثنى منه شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فهذه الصورة التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة.” انتهى من أضواء البيان.

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (21672)، ورقم: (26259).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب