الحمد لله.
أولاً:
ما وردنا من الكتب المنزلة على الأمم التي قبلنا فالموقف منها -حسب ما دلت عليه النصوص- على ثلاثة أوجه.
الأول: ما علمنا صحته بشهادة شرعنا له بالصدق.
ومنه الحديث الذي أشرت إليه في سؤالك، حيث أقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله:
فعَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَعَلَ اللهُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إِلَى قَوْلِهِ (يُشْرِكُونَ).
رواه البخاري (7513)، ومسلم (2786).
ومن هذا النوع أيضا: حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: " أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ: (كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَى مِنْكُمْ؟)، قَالُوا: نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا، فَقَالَ: (لَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ)، فَقَالُوا: لَا نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الَّذِي يَدْرُسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا، وَلَا يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: هِيَ آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَجْنَأُ عَلَيْهَا، يَقِيهَا الْحِجَارَةَ".
رواه البخاري (4556)، ومسلم (1699).
وما أقر شرعنا أنه في التوراة: فيجوز أن نقول إنه من الحق الذي بقي في الكتب السابقة ولم يُحرف، إذا علمنا أنه ما زال موجودا في أيديهم اليوم؛ وإلا؛ فقد يكونون حرفوه، وأخفوه بعد مجيء شريعتنا، تدليسا، وتلبيسا.
الثاني: ما علمنا كذبه بما في شرعنا مما يخالفه، فهذا باطل مردود. مثل كذبهم على الأنبياء ونحوه.
الثالث: ما لم نعلم صدقه ولا كذبه، فهذا موقوف لا نصدقه ولا نكذبه، وتجوز حكايته والاستئناس به، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تُصدِّقوا أهل الكتاب، ولا تكذِّبوهم، وقولوا: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾) رواه البخاري (4215).
قال ابن كثير رحمه الله:
"ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام:
فمنها: ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله.
ومنها ما علمنا كذبه، بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا.
ومنها: ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته، بقوله، عليه السلام: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، وهو الذي لا يصدق ولا يكذب، لقوله: (فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)" انتهى من "تفسير ابن كثير" (3/ 528).
ثانياً:
إباحة النبي صلى الله عليه وسلم التحديث عن بني إسرائيل بما لا يخالف ما صح في شريعتنا، إنما هو لرفع الحرج.
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النار) رواه البخاري (3274).
وهذه الإباحة إذا عرض لها ما يوجد إشكالاً، فالمتوجه تركها.
قال البيضاوي رحمه الله:
" قول القائل: افعل هذا ولا حرج = يفيد الإباحة عرفا ورفع الحرج المفهوم من قوله: (أمتهوكون أنتم؟) ونحوه.
وإنما يجوز التحدث عنهم، إذا لم يُرْ كذب ما قاله علما أو ظنا، لقوله عليه السلام:" من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " روي بضم الياء بمعنى: يظن وبفتحها من قولهم: فلان يرى، من الرأي كذا، وإنما سماه كاذبا ، لأنه يعين المفتري ، ويشاركه بسبب نشره وإشاعته" انتهى من "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" (1/ 146).
وحيث كان الإشكال، أو خوف الالتباس في الأخذ عنهم: فالأولى اجتنابه، وقد حذر كبار الصحابة من ذلك.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ، تقرؤونه لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، فَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أنزل عليكم" رواه البخاري موقوفا من قول ابن عباس (2539).
وقال عبد الله بن مسعود: " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، فإنهم لن يهدوكم ويضلون أنفسهم، وليس أحد منهم إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال" رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (28115) وصححه محققة سعد الشثري.
والله أعلم.
تعليق