الحمد لله.
أولا:
الحديث المشار إليه: رواه مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: “أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَطَرٌ. قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ. حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟
قَالَ: (لِأَنَّهُ حَدِيثُ عهد بربه تعالى)” رواه مسلم (898).
معنى حديث العهد بالشيء: أي القريب منه. ومنه: قوم عهد حديثو عهد بإسلام، أي: أسلموا قبل زمن قريب.
فمعنى قوله: (لأنه حديث عهد بربه تعالى) أي أنه خلق في ذلك الوقت، ولم يخالطه شيء، فهو بركة من الله على فطرة الخلقة الأولى.
وقد نص الأئمة على هذا المعنى.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله:
“وقوله: لأنه حديث عهدٍ بربه؛ أي: بإيجاد ربّه له، وهذا منه – صلى الله عليه وسلم – تبرُّك بالمطر، واستشفاء به؛ لأن الله – تعالى – قد سَمّاه رحمة، ومباركًا وطهورًا، وجعله سبب الحياة، ومُبعدًا عن العقوبة. ويستفاد منه احترام المطر، وترك الاستهانة به”. انتهى من “المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم” (2/ 546).
وقال الحافظ العراقي رحمه الله: “وقوله: (إنه حديث عهد بربه) أي بتكوين ربه” انتهى من “طرح التثريب” (2/ 235).
ثانيا:
لا يدل تبرك النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر، وتعليله ذلك بأنه: (حديث عهد بربه)، على أنه يشرع التبرك بغير المطر من المخلوقات الجديدة، فيتبرك بالطفل أول نزوله، أو بالزرع أول نباته، أو نحو ذلك؛ فإن ذلك لو كان مشروعا، لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولكان أقرب، وأيسر من التبرك بالمطر.
وإنما العلة في التبرك بالمطر مركبة من كونه “رحمة”، وكونه “من عند الله”، وقد جاء لوقته.
قال الإمام النووي رحمه الله:
«ومعنى: (حديث عهد بربه): أي بتكوين ربه إياه. ومعناه: أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها؛ فيتبرك بها” انتهى من “شرح النووي على مسلم” (6/ 195).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
” قوله (إنه حديث عهد بربه) يعني: قريب عهد بالله عز وجل لماذا؟ لأنه خلق الآن فهو حديث عهد بربه، ولاحظ أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- …، وهذه العلة لازمة وليست متعدية، بمعنى: أنه لا يشرع أن كل شيء يخلقه الله من جديد نمسه بأبشارنا؛ يعني: لو أن الإنسان يقول: إذا نبت الزرع أول ما ينبت هل يسن لي أن أحسر عن ثوبي وأمس هذا الزرع الأخضر مثلًا؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفعله، فتكون هذه العلة قاصرة على معلولها لا نتعدى لغيره، ودليل ذلك التتبع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل هذا” انتهى باختصار يسير من “فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام” (2/ 458).
ثالثا:
ذهب بعض أهل العلم وأئمة السنة إلى أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حديث عهد بربه): أنه نزل من السماء لوقته، والله جل جلاله في السماء، فوق عرشه؛ فهو أقرب المخلوقات التي اتصلت بنا من السماء، والله تعالى قد استوى فوق السماء، فهو أدنى الخلق مكانا من الله جل جلاله. ولهذا استدل جمع من أئمة السنة بهذا الحديث، على إثبات علو الله تعالى فوق سمائه، على عرشه.
ويقوي هذا الوجه في معنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن يفعل ذلك بغير المطر من المخلوقات، ولو كانت شريفة ممدوحة، كاللبن مثلا، ولم يكن يفعل ذلك بغير المطر من المياه، وإن كانت حادثة لوقتها، كمياه العيون والآبار التي نبعت لساعتها؛ بل إنما يفعل ذلك بماء المطر، خاصة.
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي، رحمه الله: ” ولو كان [يعني: الله تعالى]، على ما يقول هؤلاء الزائغة في كل مكان: ما كان المطر أحدث عهدًا بالله من غيره من المياه والخلائق». انتهى، من “الرد على الجهمية للدارمي” (ص53).
واستدل الإمام الذهبي بالحديث على إثبات (علو الله) فوق سمائه، واستوائه سبحانه على عرشه، كما في كتابه “العرش”، رقم (95)، و”العلو”، حديث رقم (95)، وهو في “مختصر العلو”، رقم (25).
وكأنه لأجل ذلك المعنى: أخرج الإمام ابن أبي عاصم هذا الحديث في كتابه “السنة”، رقم (622). ومعلوم أنه يروي فيه الأحاديث المتعلقة بأبواب العقائد، والرد على المخالفين لأهل السنة.
والله أعلم
تعليق