أولًا:
يأذن الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع في عصاة المؤمنين، ولا خلاف بين أهل السنة في ذلك، وأحاديث الشفاعة الصحيحة كثيرة مستفيضة، بلغت التواتر المعنوي.
قال القاضي عياض عن الشفاعة: "قد جاءت الآثار، التى بلغت بمجموعها التواتر، بصحتها فى الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها"، انتهى من "إكمال المعلم" (1/ 565)، وأقره النووي في "شرح مسلم" (3/ 35).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد ثبت بالسنة المستفيضة، بل المتواترة، واتفاق الأمة: أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به، يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم، وأنه يشفع لهم.
ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (1/108).
فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من الموحِّدين: هو أمر اتفق عليه الصحابة واستفاضت به السنن، كما قال ابن تيمية رحمه الله:
"إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن؛ من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضًا لعموم الخلق"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (1/ 313).
ثانيًا:
العدل ضد الظُّلم، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، كما ذكر أئمة اللغة.
قال أبو منصور الأزهري في "تهذيب اللغة" (14/ 383): "أصل الظُّلم: وضعُ الشيء في غير موضعه"، انتهى. وقال أبو بكر بن الأنباري في "الزاهر" (1/116): " قال أهل اللغة، الأصمعي وأبو عبيدة وغيرهما: الظالم معناه في كلامهم: الذي يضع الأشياء في غير مواضعها"، انتهى.
والله عز وجل منزَّه عن الظلم، فهو تعالى منزه عن وضع شيء في غير موضعه، أو أن يفرِّق بين متماثلَين، أو أن يسوِّي بين مختلفَين، سبحانه وتعالى عن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والعدل: وضع كل شيء في موضعه.
وهو سبحانه حكم عدل، يضع الأشياء مواضعَها، ولا يضع شيئَا إلا في موضعه الذي يناسبه وتقتضيه الحكمة والعدل، ولا يفرِّق بين متماثلَين، ولا يسوي بين مختلفَين، ولا يعاقِب إلا من يستحق العقوبة، فيضعها موضعها، لما في ذلك من الحكمة والعدل، وأما أهل البر والتقوى فلا يعاقبهم البتة.
قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وقال تعالى أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وقال تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... الآية"، انتهى من "جامع الرسائل" (1/ 123).
ثالثًا:
الشفاعة عند الله تعالى ليست كالشفاعة عند مخلوق، والشفاعة عند الله ليست مثل (الواسطة) في الدنيا، التي تكون بين الناس وبين الملوك والرؤساء مثلًا، فالشفعاء في الدنيا: قد يشفعون لمن لا يستحق، ويشفعون بغير إذن الملوك، وقد لا يكون للشفيع منهم منزلة تؤهله للشفاعة، فمن أجل كل ذلك قد تجاب شفاعتهم وقد لا تجاب.
أما الشفاعة عند الله تعالى، فلا تكون إلا لمن ارتضى الله تعالى، وأذِن أن يُشفَع له، وكذلك لا تكون الشفاعة إلا من الذي أذن الله له أن يَشفَع، ولا تكون إلا في شيء أذن الله تعالى أن يُشفع فيه، ويراجع للفائدة إجابة السؤال: (534052).
فمن جعلَ الشفاعة عند الله تعالى مثل الشفاعات التي تكون في الدنيا بين الناس؛ فقد شبَّه الله تعالى بالمخلوق، إما في علمه تعالى، أو قدرته وقيوميته، أو رحمته وعطائه تعالى، وتشبيه الله بخلقه هو أكبر الكبائر، وهو الشرك بالله العظيم.
وقد شرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – كما في "مجموع الفتاوي" (1/ 126) وما بعدها - أن الشفاعة عند المخلوقات كالملوك والرؤساء ونحوهم، إنما يكون سببها واحد من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: جهل الملوك ببعض أحوال الناس، فيحتاج الناس إلى من يخبرهم بما يجهلونه.
والأمر الثاني: احتياج الملوك إلى إرضاء الشفعاء، بتحقيق طلبهم لنفع من يريدون نفعه، لأن هؤلاء الشفعاء هم أنصار الملوك على تثبيت المُلك، وأعوانهم في تدبير الأمور، فلا غناء عنهم.
والأمر الثالث: أن يكون الملوك غير مريدين لنفع الرعيَّة والإحسان إليهم ورحمتهم، إلا بشيء يحثهم على ذلك ويحركهم إليه، فإذا خاطبهم الشفيع تحركت همتهم في قضاء حوائج الرعية.
وهذه الأمور الثلاثة كلها منفية في حق الله تعالى، فكلها من النقص والضعف والحاجة، فهي مما لا يليق بالله تعالى، وهي بخلاف صفات كماله تعالى، وخلاف ما أخبر عن نفسه تعالى من كمال العلم، وكمال القيومية، والغنى عن الظهير والمُعِين، وتنزهه عن الشريك، وتفرده بالملك، وأنه لا ولي له من الذل، وما أخبر به عن نفسه تعالى من سعة الرحمة والعطاء، وأن يديه مبسوطتان، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، سبحانه وتعالى.
وأما الشفاعة عند الله تعالى، فهي طلب الشافع من الله تعالى نفع المشفوع له، فهي بمنزلة الدعاء الذي ينتفع به المدعوّ له، فإذا لم يكن أهلًا لم يُستَجب الدعاءُ له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"ولا ريب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع، والله قد أمر بذلك، لكن الداعي الشافع: ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله له في ذلك، فلا يشفع شفاعة نُهي عنها؛ كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة، قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ... وقد قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء، ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبدُ ما لم يكن الربُّ ليفعلَه.
فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة: شفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان، ولو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له: لا يُقرّ عليه؛ فإنهم معصومون أن يقروا على ذلك...
وكل داعٍ شافع، دعا الله سبحانه وتعالى، وشفع؛ فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، وهو الذي يجيب الدعاء، ويقبل الشفاعة فهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى"، انتهى مختصرًا من "مجموع الفتاوي" (1/ 130).
والمقصود بيانه هنا: أن الشفاعة عند الله تعالى: تكون لمن حكَم الله وقضى أنه من أهل الشفاعة وارتضى تعالى وأذن أن يُشفَع له، وإنما جعل الله تعالى الشفاعة سببًا يحصل به العفو، كما جعل دعاء الغير سببًا.
رابعًا:
قد أخبر تعالى أنه قائم بالقسط، وأنه لا يظلم الناس شيئًا، فهو تعالى لا يضع شيئا في غير موضعه، ولا يسوي بين مختلفين، ولا يفرق بين متماثلين، وبيّن تعالى بيانا قاطعًا أنه يفرق بين الطائع والعاصي، فلا يستويان، كما قال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الآية. وقال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ الآية، وقال: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الآية. وقال: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّور، وغيرها كثير.
وسوف يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للعصاة من المؤمنين، فيخرجون من النار بشفاعته صلى الله عليه وسلم، ويدخلون الجنة، كما صحت الأحاديث به، واتفق عليه الصحابة، وأجمع أهل السنة عليه.
وليس في هذا ظلم، تعالى الله عما يتوهم المتوهمون. ولا تعارض بين الشفاعة والعدل؛ أدنى شيء!! ولا تسوية بين الطائع التائب وبين العاصي غير التائب.
ويتبين الفرق العظيم بين الطائع وبين العاصي صاحب الكبيرة المشفوع له بأمرين:
(فالأمر الأول): أن الله تعالى إنما يأذن في الشفاعة بعد إدخال العاصي النار وتعذيبه بها ومكوثه فيها ما شاء الله أن يمكث، كل بحسب درجة عصيانه، فكيف يستوي من دخل النار وعُذب بها ما شاء الله، ومن لم يدخلها؟
وقد جاء في حديث الشفاعة قول النبي صلى الله عليه وسلم:
... فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدًا، فيقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة - أو خردلة - من إيمان فأخرجه، فأنطلق، فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل رواه البخاري (7510)، ومسلم (193).
فلا يعلم أحد مدة مكوث العصاة في النار، حتى يأذن الله تعالى في الشفاعة، ولا مدة مكوث النبي صلى الله عليه وسلم في حمد الله ودعائه حتى يُخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ولا مدة الحمد التالي، والخروج التالي، وهكذا.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري (6573)، ومسلم (182)، أن المشفوع لهم يخرجون حين يخرجون وقد امتُحشوا ، قال ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 457): " أي احترقوا ... والمحش احتراق الجلد وظهور العظم"، انتهى.
وفي رواية عند البخاري: فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمما، وعند مسلم حتى إذا كانوا فحما، أذن بالشفاعة.
فإذا كان لا يؤذن بالشفاعة إلا بعد أن يُمْتحشوا، ويصيروا فحَمًا، والله أعلم كم يستغرق أمر الشفاعة من زمانٍ، بعد الإذن حتى يخرجوا من النار؛ فأين هذا من الطائعين الذين يتنعمون كل هذه المدة في جنات النعيم؟
أفلا يكفيك ذلك كله فرقا عظيما، يا عبد الله؟!!
والله؛ إن غمسة واحدة، يغمسها العبد المنعم في جهنم، لتنسيه نعيم الدنيا بأسرها، فكأنه ما ذاق قبل ذلك نعيما قط، كما أخبر الصادق المصدوق:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ فِي النَّارِ غَمْسَةً، فَيُغْمَسُ فِيهَا، ثُمَّ يُخْرَجُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَيْ فُلَانُ هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، مَا أَصَابَنِي نَعِيمٌ قَطُّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا، وَبَلَاءً، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً، فَيُقَالُ لَهُ: أَيْ فُلَانُ هَلْ أَصَابَكَ ضُرٌّ قَطُّ، أَوْ بَلَاءٌ، فَيَقُولُ: مَا أَصَابَنِي قَطُّ ضُرٌّ، وَلَا بَلَاءٌ رواه ابن ماجه (4321)، وصححه الألباني.
هل أبصرت الفرق بين الرجلين، يا عبد الله؟!
ثم تأمل، وأشعر نفسك النصح وأنت تقرأ حديث الشفاعة: كيف أن الشفاعة اقترنت في كل مرة بحمد الله، بمحامد لم يبلغها علم الخلائق ولا علمهم قبل ذلك: (فأحمده بتلك المحامد)؛ ليدلك على أن هذا أعظم مقام يستحق الرحمن الرحيم الحمد عليه، والثناء عليه بما هو أهله؛ فذلك مقام "حمد" على النعمة السابغة، والرحمة الواسعة؛ لا مقام تشكك، ومزاحمة للرحمن في سلطانه، ولا تحجر لواسع فضله وعطائه.
(وأما الأمر الثاني): فأن المشفوع له إذا خرج من النار ودخل الجنة، فإنه يكون في منزلة من الجنة أدنى من منزلة الطائع المنعَّم الذي لم يدخل النار، بل يكون أيضًا في منزلة مختلفة عن أمثاله من الذين خرجوا من النار، فكل بحسب عمله ودرجة عصيانه، أو ما جاء به من الحسنة والسيئة، فإن الله تعالى عدل، يضع كل شيء موضعه.
روى البخاري (6571)، ومسلم (186) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا، رجل يخرج من النار كبوا، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيَّل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها - أو: إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا - فيقول: تسخر مني - أو: تضحك مني - وأنت الملك قال ابن مسعود رضي الله عنه: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقول: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة .
فهذا الحديث وغيره، يقتضي تفاوت أهل الجنة في المنازل، كل بحسب درجته وعمله، ومعقول أن يكون آخرُ من يخرج من النار من عصاة الموحدين، هو أكثرَهم عصيانا، فلذا يكون آخرهم خروجًا، وأيضا يناسبه أن يكون هو أدنى أهل الجنة منزلة، لأنه أكثر الموحدين عصيانًا، وآخرهم خروجًا من النار، فهو أدنى أهل الجنة منزلة، وفي هذا من العدل ووضع الشيء في موضعه ما هو معقول مفهوم، إن شاء الله.
وهذا الوجه نافع أيضًا في إثبات الفرق بين الطائع والتائب الذي يلقى الله تائبًا، وبين صاحب الكبيرة الذي يختار الله تعالى أن يغفر له، فقد اتفق أهل السنة أن أصحاب الكبائر في المشيئة، إن شاء غفر الله لهم، لأدلة كثيرة من أظهرها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، قال الطبري رحمه الله:
"وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه ذنبَه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركًا بالله تبارك وتعالى"، انتهى من "تفسيره" (7/123).
فإذا غفر الله لمن شاء من عباده، ثم أنزل الله تعالى كلَّ مخلوق منزلته على قدر عمله، ثم أحسنَ تعالى إلى بعض خلقه، مع عدم تسويته بين مختلفَين؛ فالله يحكم ما يشاء، وهذا جمع بين العدل والإحسان، والحمد لله رب العالمين.
وبعد؛ فعن أي ظلم تتحدث يا عبد الله؟ وعن ظلم من؟
ظلم العاصي الذي عذب؛ فإنما عذب بذنبه، لا بذنب غيره.
وأخرج من النار، برحمة أرحم الراحمين، ورضاه بشفاعة الشافعين، قبل أن يستوفي ما يستحقه ذنبه من العقاب، والعذاب. فلا هو حمل عليه ذنبه، ولا استوفى جزاء جريرته، وجريمته، فعن ظلم من تتحدث؟
قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ الأنبياء/47.
قال الطبري: "وقولُه: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا. يقولُ: فلا يَظْلِمُ اللَّهُ نفسًا ممَّن ورَد عليه منهم شيئًا بأن يعاقبَه بذنبٍ لم يَعْمَلُه، أو يبخسَه ثوابَ عملٍ عمِلَه، أو طاعةٍ أَطاعه بها، ولكِن يُجازِى المحسنَ بإحسانِه، ولا يعاقبُ مسيئًا إلا بإساءتِه" انتهى، من "تفسير الطبري" (16/ 285).
وقال السعدي، رحمه الله: «يخبر تعالى عن حكمه العدل، وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة، وأنه يضع لهم الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر، الذي توزن بها الحسنات والسيئات، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ مسلمة أو كافرة شَيْئًا بأن تنقص من حسناتها، أو يزاد في سيئاتها.
وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ التي هي أصغر الأشياء وأحقرها، من خير أو شر أَتَيْنَا بِهَا وأحضرناها، ليجازى بها صاحبها، كقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ». انتهى، من "تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن" (ص524).
أم تراك تجادل عن العبد الطائع، المنعم في جنة الخلد، وعنه تناضل؟!
فدع هذا يا عبد الله، فليس هو بحاجة إلى هذا النضال، والجدال، والقيل والقال؛ إنه في شيء آخر، ذاهل عن تلك الوساوس كلها:
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 55 - 58]
لقد ذهبت عنه الدنيا، وأحقادها، وحساباتها الصغيرة الحقيرة، وسلم قلبه للنعيم:
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ * وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلّٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ وَنُودُوٓاْ أَن تِلۡكُمُ ٱلۡجَنَّةُ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ [الأعراف: 42-43].
أتناضل عمن أعطي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟!
أتناضل عمن أعطي ما لا تبلغه أمانيه، وأنى لعمله أن يبلغه ذلك النعيم، أو يدانيه؟
إنك تناضل عن عبد يتنعم بـ"الفضل"، وأنت تحب أن ترده إلى "العدل"؟! هيهات.
فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ [السجدة: 17].
والمحكَم في هذا الباب:
أن الله تعالى لا يسوي بين مختلفين، ويَحكم الله تعالى بين العباد، ويحاسبهم، ويضع كل شيء موضعه، ولا يظلم الله تعالى أحدًا مثقال ذرة، ولن يدخل أحدٌ الجنة بعمله، وإنما برحمة الله.
ومهما قدَّرتَ من أمر أو فعل، أو عذاب أو نعيم، أو قضاء من الله قضاه لعباده، فالتمس له ما شئت من المعاني، والحكم؛ بعد أن يقر في قلبك، وتعلم علم اليقين: أن الظلم لا مدخل له في أفعال الله البتة؛ بل هو العدل، التام في عدله وحكمته، التام في رحمته، وبره، الواسع في عطئه لعباده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
"كل خير: فهو داخل في القسط، والعدل. وكل شر فهو داخل في الظلم.
ولهذا كان العدل أمرا واجبا في كل شيء، وعلى كل أحد.
والظلم محرما في كل شيء، ولكل أحد.
فلا يحل ظلم أحد أصلا؛ سواء كان مسلما، أو كافرا، أو كان ظالما.
بل الظالم إنما يباح، أو يجب فيه العدل عليه أيضا: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن أي: لا يحملنكم شنآن أي: بغض قوم - وهم الكفار - على عدم العدل؛ قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (18/ 166).
ولهذا كان علماء الصحابة، وفقهاؤهم، يقررون ذلك الأصل العظيم في نفوس أصحابهم، كلما جالسوهم:
عن ابن الدَّيلميِّ، قال: " أتيتُ أبيَّ بن كعب فقلت له: وقع في نفسِي شيء من القَدَرِ، فحدّثْني بشيءٍ لعلَّ الله عز وجل أن يُذهِبَه من قلبي، قال: لو أنَّ الله عذَّبَ أهل سماواتِه وأهلَ أرضه، عذبَهم وهو غيرُ ظالم لهم، ولو رَحِمَهم، كانت رحمتُه خيراً لهم من أعمالهم ..) رواه أبو داود (4699) وغيره، وصححه الألباني.
وعن أبي إدريس الخولاني: أن يزيدَ بنَ عَمِيرةَ -وكان من أصحاب معاذ بن جبل- أخبره، قال: كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلساً للذكر، حين يجلس إلا قال:
"الله حَكَمٌ قِسْطٌ، هلك المُرتابون " رواه أبو داود (4611) وغيره، وصحح الألباني إسناده.
فدع عنك وساوس الشياطين، وهوجس النفس الأمارة بالسوء، يا عبد الله، وقم وتعوذ بالله، وتحصن بذكر من كيد عدوه، وأكثر الحمد لربك، فهو المحمود على نعمه، وإحسانه، وتوضأ، وصل لله ركعتين، لعل الله أن يذهب ما بك، وسل الله الهداية والسداد.
والله أعلم.