145

هل يدل قوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) على عدم التذكير إن لم ترج الفائدة؟

السؤال: 606285

سمعت من أحد أن قول الله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) [الأعلى/ 9]، إنه إن لم تنفع الذكري فلا تقم بالتذكير، فهل هذا صحيح؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

اختلفت اتجاهات العلماء في فهم قول الله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى الأعلى/ 9.

الاتجاه الأول:

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى): أي: فذَكِّرْ -يا محمد- بالقُرآنِ إذا رَجَوتَ نَفعًا في التَّذكيرِ.

وعلى هذا فتكون (إن) شرطية والمعنى إن نفعت الذكرى فذكر، وإن لم تنفع فلا تذكر، لأنه لا فائدة من تذكير قوم نعلم أنهم لا ينتفعون.

ومِمَّن ذهب في الجملةِ إلى هذا المعنى المذكورِ: ابنُ كثير، والبِقاعي، والسعدي، والشنقيطي رحمهم الله.

يُنظر: "تفسير ابن كثير" (8/380)، "نظم الدرر" للبقاعي (21/398)، "تفسير السعدي" (ص: 921)، "دفع إيهام الاضطراب" للشنقيطي (ص: 257-259).

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "الَّذي يظهَرُ لمقَيِّدِ هذه الحروفِ -عفا الله عنه- هو بقاءُ الآيةِ الكريمةِ على ظاهِرِها، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ أن يكَرِّرَ الذِّكرى، تكريرًا تقومُ به حُجَّةُ اللهِ على خَلْقِه: مأمورٌ بالتَّذكيرِ عندَ ظَنِّ الفائدةِ...

وبيانُ ذلك: أنَّه تارةً يَعلمُه بإعلامِ اللهِ به، كما وقَعَ في أبي لهبٍ...

وتارةً يَعلَمُ ذلك بقرينةِ الحالِ، بحيث يُبلِّغُ على أكمَلِ وَجهٍ، ويأتي بالمعجزاتِ الواضِحةِ، فيَعلَمُ أنَّ بَعضَ الأشخاصِ عالمٌ بصِحَّةِ نبُوَّتِه، وأنَّه مُصِرٌّ على الكُفرِ؛ عِنادًا ولَجاجًا= فمِثلُ هذا لا يجِبُ تكريرُ الذِّكرى له دائمًا، بعدَ أن تكَرَّرَ عليه تكريرًا تلزَمُه به الحُجَّةُ".

ثمَّ قال: "وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها، مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها، وأن معناها: فذكر مطلقًا؛ إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع= لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادرة منه، إلا لدليل يجب الرجوع له.

وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها جنح ابن كثير، حيث قال في تفسيرها: أي ذكر حيث تنفع التذكرة.

ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم؛ فلا يضعه في غير أهله، كما قال علي رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم، وقال: حدث الله الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله.

تنبيه:

هذا الإشكال الذي في هذه الآية، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب، الذي هو مفهوم المخالفة.

وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة، شرطًا كان أو غيرَه، كأبي حنيفة؛ فلا إشكال في الآية.

وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط، كالباقلاني؛ فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنة النفع، فيطلب من دليل آخر، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا" انتهى من "دفع إيهام الاضطراب" (ص: 257-260). ويُنظر: "تفسير ابن عاشور" (30/284، 285).

وعلى هذا القول؛ فإنه إذ سقط وجوب النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه يبقى استحباب ذلك، ومشروعيته، والندب عليه؛ لا سيما إذا كان فيه تنبيه للغافل على نكارة الفعل المعين، وبقاء العلم به في الناس.

قال العز ابن عبد السلام رحمه الله في "قواعد الأحكام" (1/ 128):

"فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يجديان ولا يفيدان شيئا، أو غلب على ظنه، سقط الوجوب لأنه وسيلة، ويبقى الاستحباب، والوسائل تسقط بسقوط المقاصد، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدخل إلى المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه.

وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم، كلما رأوهم، مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم" انتهى.

الاتجاه الثاني:

أن المعنى: ذكر على كل حال، سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع، مثلما يقال للإنسان: علم هذا إن كان ينفعه العلم، المعنى: كرر عليه التعليم، وقالوا : إن هذا أسلوب معروف في اللغة العربية أنه يقصد بالشرط الاستمرار.

وعلى ذلك، يكون المعنى: ذكر بكل حال، والذكرى سوف تنفع؛ فإن لم يتذكر الشخص المعين، أو لم ينتفع بتذكير المذكِّر له: فإن ذلك لا ينقص من أجر المذكر شيئاً، فذكر سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع.

وهذا الاتجاه هو رواية عن أحمد، وممَّن اختاره: الواحديُّ، ومكِّي، والبغوي، وابن تيمية، والشوكاني رحمهم الله.

يُنظر: "الوسيط" للواحدي (4/470)، "الهداية إلى بلوغ النهاية"- لمكي (12/8211)، "تفسير البغوي" (5/242)، "مفاتيح الغيب" (31/ 131)، "تفسير الشوكاني" (5/516).

قال السفاريني الحنبلي رحمه الله في "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" (1/215): " وقال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية: حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن الإمام أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يُعلم أنه لا يقبل منه، وصحح القول بوجوبه. وهو قول أكثر العلماء.

وقد قيل لبعض السلف في هذا؟ فقال: يكون لك معذرة " انتهى.

قال شيخ الإسلام ابنُ تيميَّةَ رحمه الله : (قَولُه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى أمرٌ بتذكيرِ كُلِّ أحدٍ، فإن انتفَعَ كان تذَكُّرُه تامًّا نافِعًا، وإلَّا حَصَل أصلُ التَّذكيرِ الَّذي قامت به الحُجَّةُ، ودَلَّ ذلك على ذَمِّه واستِحقاقِه التَّوبيخَ، مع أنَّه سُبحانَه إنَّما قال: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، ولم يقُلْ: ذكِّرْ مَن تَنفَعُه الذِّكْرى فقط... ولم يقُلْ: سيَنتَفِعُ مَن يَخشى؛ فإنَّ النَّفعَ الحاصِلَ بالتَّذكيرِ أعَمُّ مِن تذَكُّرِ مَن يَخشى؛ فإنَّه إذا ذَكَّر قامت الحُجَّةُ على الجميعِ، والأشقى الَّذي تجَنَّبَها حصَلَ بتذكيرِه قيامُ الحُجَّةِ عليه، واستِحقاقُه لعذابِ الدُّنيا والآخِرةِ). انتهى من "مجموع الفتاوى" (16/169).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "تفسير جزء عم" (ص: 164):

"(فذكر إن نفعت الذكرى) يعني ذكر الناس، ذكرهم بآيات الله، ذكرهم بأيام الله، عِظْهم، (إن نفعت الذكرى) يعني في محل تنفع فيه الذكرى، وعلى هذا فتكون (إن) شرطية والمعنى إن نفعت الذكرى فذكر، وإن لم تنفع فلا تذكر، لأنه لا فائدة من تذكير قوم نعلم أنهم لا ينتفعون، هذا ما قيل في هذه الآية.

وقال بعض العلماء: المعنى ذكر على كل حال، إن كان هؤلاء القوم تنفع فيهم الذكرى.

فيكون الشرط هنا ليس المقصود به أنه لا يُذكر إلا إذا نفعت، بل المعنى: ذكِّرْ، إن كان هؤلاء القوم ينفع فيهم التذكير.

فالمعنى على هذا القول: ذكر بكل حال، والذكرى سوف تنفع؛ تنفع المؤمنين، وتنفع الُمذكِّر أيضاً، فالمذكر منتفع على كل حال، والمذكر إن انتفع بها فهو مؤمن، وإن لم ينتفع بها فإن ذلك لا ينقص من أجر المذكر شيئاً، فذكر سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع.

وقال بعض العلماء: إن ظن أن الذكرى تنفع وجبت، وإن ظن أنها لا تنفع فهو مخير، إن شاء ذكر وإن شاء لم يذكر.

ولكن على كل حال نقول: لابد من التذكير، حتى وإن ظننت أنها لا تنفع، فإنها سوف تنفعك أنت، وسوف يعلم الناس أن هذا الشيء الذي ذكرت عنه: إما واجب، وإما حرام، وإذا سكتَّ والناس يفعلون المحرم، قال الناس: لو كان هذا محرماً لذكَّر به العلماء، أو لو كان هذا واجباً لذكَّر به العلماء.

فلابد من التذكير، ولابد من نشر الشريعة؛ سواء نفعت أم لم تنفع" انتهى.

وفي تفسير الرازي "مفاتيح الغيب" (31/ 131): "في قوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) سؤال: أنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الكل، فيجب عليه أن يذكرهم، سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم؛ فما المراد من تعليقه على الشرط في قوله: (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)؟

الجواب: أن المعلق على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، كقوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) [النور: 33]، ومنها قوله: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172] ، ومنها قوله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء/ 101] : فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف ومنها قوله: (وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ) [البقرة/ 283 ]، والرهن جائز مع الكتابة...

وإذا عرفت هذا فإنهم ذكروا لذكر هذا الشرط فوائد:

إحداها: أن من باشر فعلا لغرض، فلا شك أن الصورة التي علم فيها إفضاء تلك الوسيلة، إلى ذلك الغرض: كان إلى ذلك الفعل أوجب من الصورة التي علم فيها عدم ذلك الإفضاء؛ فلذلك قال: (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى).

ثانيها: أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين، ونبه على الأخرى، كقوله: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل: 81] ، والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع .

ثالثها: أن المراد منه: البعث على الانتفاع بالذكرى، كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق: قد أوضحت لك إن كنت تعقل، فيكون مراده البعث على القبول والانتفاع به.

رابعها: أن هذا يجري مجرى تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا تنفعهم الذكرى، كما يقال للرجل: ادع فلانا إن أجابك، والمعنى: وما أراه يجيبك .

خامسها: أنه عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى الله كثيرا، وكلما كانت دعوته أكثر كان عتوهم أكثر، وكان عليه الصلاة والسلام يحترق حسرة على ذلك، فقيل له: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق/45] ؛ إذ التذكير العام واجب في أول الأمر، فأما التكرير فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود؛ فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط" انتهى .

وينظر للفائدة : إجابة رقم: (104020)، ورقم (304654)، ورقم (217453).

والله أعلم.

المراجع

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android