السبت 27 جمادى الآخرة 1446 - 28 ديسمبر 2024
العربية

منهج المحدثين منهج العدل والإنصاف

82365

تاريخ النشر : 13-01-2007

المشاهدات : 22982

السؤال

كتب أبو الأعلى المودودي في كتابه (تفاهمات) ما يلي : " قد يكون لدى المحدثين أيضًا ضعف بشري أو أخطاء ، فقد كانوا من البشر ، وربما كانت هناك عداوة بينهم وبين الراوي ، ولذلك فربما يقول المحدث إن راوي الحديث ضعيف لأنه يكرهه " وذكر مولانا في كتابه بعض الأمثلة على محدثين ذائعي الصيت وعداوتهم ، معذرة ، لا أجد كلمة أخرى أعبر بها بدلا من كلمة عداوة . فمن فضلكم ساعدوني في إزالة هذا الإشكال . لا يمكن أن تتخيلوا كم أربكني وحيرني هذا القول ؟ بل لدرجة أني غالبًا أجد الشك في الامتثال لحديث صحيح . رجاء الجواب بأسرع وقت ممكن .

الجواب

الحمد لله.

أولا :
علم الحديث والإسناد هو من خصائص هذه الأمة ؛ فلا يوجد عند أمة من الأمم مثل ما عندنا من العناية بالإسناد في نقل كتبهم ودينهم ، ولذلك دخلها التحريف والتأليف ، واستحال وصولهم إلى الدين النقي ، أو الوقوف على أحوال أنبيائهم ، على ما كانت عليه ، من وجه صحيح يوثق به .
ولعلماء الحديث في ذلك اليد الطولى ، والمقام المنيف الذي حباهم الله تعالى به ؛ إذ شرفهم الله بالعمل على حفظ دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
قال محمد بن حاتم بن المظفر رحمه الله : " إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد ، وليس لأحد من الأمم كلها ، قديمهم وحديثهم إسناد ، وإنما هي صحف في أيديهم ، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم ، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم ، وتمييز بين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوا عن غير الثقات . وهذه الأمة إنما تنص الحديث من الثقة المعروف في زمانه ، المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم ، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ ، والأضبط فالأضبط ، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة ، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها وأكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل ، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدا ؛ فهذا من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة . نستوزع الله شكر هذه النعمة ، ونسأله التثبيت والتوفيق لما يقرب منه ويزلف لديه ، ويمسكنا بطاعته ، إنه ولي حميد " اهـ شرف أصحاب الحديث (40) .
ثانيا :
وهم أولى من يتحرى الأمانة في الحكم والنقل ، وأوثق من يتحرز من الحيف والجور ، حتى ضربوا بذلك أعظم الأمثلة في الإنصاف وتجنب المحاباة في دين الله :
فهذا علي بن المديني يطلق الحكم بضعف أبيه ، وهو يدرك أن حكمه هذا على والده سيكون كفيلا بالقضاء على مكانته العلمية ، فلم يمنعه ذلك من إطلاق رأيه فيه .
قال الخطيب البغدادي رحمه الله :
" فليس أحد من أهل الحديث يحابي في الحديث أباه ، ولا أخاه ، ولا ولده . وهذا علي بن عبد الله المديني ، وهو إمام الحديث في عصره ، لا يروى عنه حرف في تقوية أبيه بل يروى عنه ضد ذلك " اهـ شرف أصحاب الحديث (41) .
وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/15) :
" سئل علي بن المديني عن أبيه ؟ فقال : " اسألوا غيري " فقالوا : سألناك ، فأطرق ، ثم رفع رأسه وقال : " هذا هو الدين، أبي ضعيف " انتهى .
وهذا يحيى بن معين يتكلم في صاحب له ممن كان يحبه ، فنقل عنه الحسين بن حبان قوله في ( محمد بن سليم القاضي ) : " هو والله صاحبنا ، وهو لنا محب ، ولكن ليس فيه حيلة البتة ، وما رأيت أحداً قط يشير بالكتاب عنه ولا يرشد إليه " وقال : " قد والله سمع سماعاً كثيراً ، وهو معروف ، ولكنه لا يقتصر على ما سمع ، يتناول ما لم يسمع " ، قلت له : يكتب عنه ؟ قال : " لا " انتهى . انظر "تاريخ بغداد" (5/325)
وهذا جرير بن عبد الحميد يقول عن أخيه أنس : " لا يكتب عنه ؛ فإنه يكذب في كلام الناس " "الجرح والتعديل" (2/289)

والإمام البخاري يروي في صحيحه كثيرا عن شيخه محمد بن يحيى الذهلي رغم ما تعرض له من الأذى بسبب كلامه فيه وهجره له ، إلا أن العداء لم يمنعه من قبول حديثه وروايته .

وقد كانوا يقبلون حديث من يخالفهم في الرأي والمعتقد – إذا ثبت صدقه وتحريه -، ولم يكن ابتداع الراوي بمانع لهم أن يحكموا فيه بالعدل والإنصاف ، وهم يسمعون قول الله تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المائدة/8
سئل يحيى بن معين عن سعيد بن خثيم الكوفي فقال : كوفي ليس به بأس ، ثقة ، فقيل ليحيى : شيعي ؟ فقال : وشيعي ثقة ، وقدري ثقة . "تهذيب الكمال" (10/414)
وكان عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي شيعياً جلداً ، ومع ذلك فقد كان ابن خزيمة يقول في صحيحه (2/376) : حدثنا الثقة في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب.
ثالثا :
كما كانوا يدركون خطورة التطاول على أعراض الناس بغير حق ، وعظم شأن الخوض في أحوال الرواة لما ينبني عليه من قبول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رده ، حتى قال مُحَمَّد بْن سِيرِينَ : " إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ "
رواه مسلم في مقدمة صحيحه .
وقال ابن دقيق العيد :
" أعراض المسلمين حفرة من النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام " انتهى . انظر "تدريب الراوي" (2/369)
ومثل هذا التدين العظيم ، والورع البالغ لا بد وأن يكون له أكبر الأثر في الإنصاف وتحري الصواب حين الحكم على الرواة ، وهذا ما يشترطه أهل العلم في كل من يشتغل بالنقد .
قال الذهبي في "الموقظة" (82) :
" الكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام ، وبراءة من الهوى والميل ، وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله " انتهى .
ويقول المعلمي رحمه الله في "التنكيل" (1/54) :
" أئمة الحديث عارفون متيقظون يتحرزون من الخطأ جهدهم ، لكنهم متفاوتون في ذلك " انتهى .
رابعا :
نعم ، ليس الواحد من هؤلاء معصوما ، ومن الممكن أن يقع في كلام بعضهم شيء من الخطأ ، ومن الممكن أيضا أن يكون الحامل على بعض هذه الأخطاء حب أو سخط ، وقد وقع شيء من ذلك فعلا ، وذلك ما لا يخلو عنه البشر ، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون باعثا على التشكك في جميع أحكام النقاد ، وذلك لما يلي :
1- لأنها أخطاء يسيرة في جنب التراث العظيم الذي خلفه أئمة الحديث والجرح والتعديل ، وهو في غالبه العظيم على جادة الأمانة والإنصاف ، فلا يجوز أن يهدر ذلك بسبب النادر من الأخطاء .
2- ولأن المحققين من النقاد بينوا تلك الأخطاء وميزوها في كلامهم ونقدهم ، فما كان الباعث عليه عداء أو حسد أو اختلاف مذهب ردوا الحكم الجائر ، وأنصفوا فيه الراوي .
ولهذا لم يقبل العلماء قول الإمام مالك في محمد بن إسحاق صاحب "المغازي" أنه دجال من الدجاجلة ؛ لما علم أنه صدر من منافرة باهرة ، بل حققوا أنه حسن الحديث ، واحتجت به أئمة الحديث ، ولم يقبل قول النسائي في أحمد بن صالح المصري ، ولا قول ربيعة في أبي الزناد عبد الله بن ذكوان . انظر "الرفع والتكميل" (409-432) .
قال أبو حاتم الرازي رحمه الله : " لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة » فقال : له رجل : يا أبا حاتم ربما رووا حديثا لا أصل له ولا يصح ؟ فقال : علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم (1) ، فروايتهم ذلك للمعرفة ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها ، ثم قال : رحم الله أبا زرعة ، كان والله مجتهدا في حفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم " شرف أصحاب الحديث ( 43) .

ولتعلم ـ أيها السائل الكريم ـ
فقد حفظ الله هذا الدين بمنه وفضله ، وأن السنة المشرفة محفوظة بحفظ الله تعالى لدينه [ راجع السؤال رقم (77243) ] ، فلا يمكن أن يجتمع العلماء على توثيق راو ضعيف ، أو جرح راو صدوق ، بل لا بد أن تجد الحق والإنصاف باديا ظاهرا في أقوال جمهور أهل العلم وفي معظم مسائل الدين .
يقول الإمام الذهبي رحمه الله "الموقظة" (84) :
" وقد يكون نفس الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطف منه فيما كان بخلاف ذلك ، والعصمة للأنبياء والصديقين وحكام القسط .
ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى ، لم يجتمع علماؤه على ضلالة ، لا عمدا ولا خطأ ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ، ولا على تضعيف ثقة ، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف ، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه ، فإن قدر خطؤه في نقده فله أجر واحد ، والله الموفق " انتهى .
يقول ابن كثير في "الباعث الحثيث" (1/11) :
" أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن ، فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب ، وذلك للعلم بمعرفته ، واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن ، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح ، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل ، أو كونه متروكاً ، أو كذاباً أو نحو ذلك ، فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم ، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم ، ولهذا يقول الشافعي في كثير من كلامه على الأحاديث : " لا يثبته أهل العلم بالحديث " ، ويرده ، ولا يحتج به بمجرد ذلك " انتهى .

وبخصوص ما أشرت إليه ـ أخانا الكريم ـ من كلام الشيخ المودودي ـ عفا الله عنه ـ في كتابه المذكور ، فالشيخ المودودي وإن كان له من الفضل والسابقة في الدعوة في شبه القارة الهندية ، والتصدي لكثير من الأفكار التغريبية المنحرفة ، وجهوده الكبيرة في الدعوة والتأليف ، إلا أنه ـ شأن غيره من البشر ليس معصوما عن الخطأ ، خاصة إذا تكلم في غير ما يحسن ، وفي غير تخصصه ، كما هو الحال في موضع السؤال ، وقد كانت للشيخ رحمه الله هفوات ، بل أخطاء عديدة في موقفه من السنة النبوية ، ومنهج علماء الحديث في نقدها وتمييزها ، ولا يتسع المجال هنا إلى ذكرها أو الإشارة إليها ، وقد نبه إلى ذلك عدد من العلماء والمختصين ؛ ومن هؤلاء : العلامة الباكستاني " محمد إسماعيل السلفي " رحمه الله ( ت 1387) ، فله دراسة هامة حول " موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي " ، وانظر أيضا ـ بالعربية ـ : " زوابع في وجه السنة " تأليف صلاح الدين مقبول أحمد ، ص (117) وما بعدها .

وأخيرا ، فلتقر عينك أخي الكريم بنعمة الله تعالى على الأمة بذلك العلم الشريف ، ولا تسترسل في التشكك في الأحاديث الصحيحة ، فالعقل يقضي بعدم رد جهود آلاف العلماء الأمناء عبر آلاف السنين بأخطاء وقعت هنا وهناك ، وما أرى الذي يقع في نفسك إلا من وسواس الشيطان ، فاستعذ بالله منه ، ولا تلتفت إليه ، واحرص على القراءة في كتب علوم الحديث ، وأنا واثق أنه سيهولك تلك الجهود الجبارة التي تبذل في سبيل التحقق من صحة الحديث الواحد ، وذلك ما آمن به كل من طالع كتب الحديث وعلومه ورجاله ، حتى قال المستشرق مرجليوث : " ليفخر المسلمون بعلم حديثهم " .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب