الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

معاناة شاب مستقيم من تصرفات والده الذي يمنعه من الخير

96576

تاريخ النشر : 07-02-2007

المشاهدات : 23502

السؤال

أرجو من فضيلتكم إفادتي في هذه المشكلة :
بدأت هذه المشكلة بيني وبين أبي ، وذلك منذ التزمت وأعفيت لحيتي ، في البداية بدأ الأمر بالضغط عليَّ لكي أحلق لحيتي ، ثم منع أصحابي من دخول بيتنا ، ثم منعي من أن أصادق بعض الشباب في الحي ، علماً بأن عمري كان وقتها 21 عاماً ، وكنت إذا رأيت ورقه ملقاة في الشارع فيها آيات من القرآن أو أحاديث آخذها معي إلى البيت وأحرقها ، وأبي كان يعلم بهذا ، وفي مرة وجدتُ كتاباً في الفقه يدرَّس في الأزهر ملقى في الشارع وممزقاً , فأخذته ووضعته في حقيبة معي أحمل فيها الملابس الخاصة بعملي , وعندما عدت إلى البيت في آخر النهار وضعت الحقيبة عند باب الحجرة حتى أتناول عشائي , وكان من عادة أبي أن يقوم بتفتيش متعلقاتي , فلما رأى الكتاب الممزق قال : " لماذا تحضر الزبالة من الشوارع " ، وهو يعلم أنه كتاب ديني ، فقلت : " كلام الله ورسوله زبالة ؟ " فقال أبي : " نعم زبالة " ، وفي مرة قال لي : لا تمشِ مع ابن فلان – جارنا - [ وذلك حتى لا أدعوه للالتزام ] فقلت : في شرع من هذا ؟ فقال : في شرع أبي ! " ، هذا ليس كل شيء , كان يستهزئ بالإخوة الملتزمين ، ويسخر منهم , مع أن منهم إخوة في مثل عمره ، وهم جيرانه أيضا ، في مرة أخذ المنبه من عندي وأنا نائم حتى لا أصحو لصلاة الفجر .
آخر أحداث هذه المعاناة : هو أنه دبَّر لي مكيدة لكي يتم اعتقالي من قبل السلطات الأمنية, ولكني نجوت بفضل الله سبحانه وتعالى ، الآن أصبح عمري 25 عاماً , وأنا أكرهه وأبغضه ؛ لما سبَّب لي من الأذى في نفسي وديني , لا أستطيع أن أحبه أو أشعر به كأب , أصبحت أشعر أنه عدوي , خاصة بعد حادثة الاعتقال ، وكل يوم أحاول أن أجد سبيلا كي أؤمن نفسي ضد غدره بي .
عندما أقرأ النصوص التي تتضمن الأمر ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما , أقول لنفسي : هذا الرجل استهزأ بديني وبكلام الله ورسوله ، وحاربني في التزامي ، ولم يكتف بذلك , بل نصب لي فخّاً ليتم اعتقالي ، ومن وجه آخر أمي تتعذب ؛ فهو يظلمها ويسيء معاملتها , وهي تريد أن يصبح البيت مستقراً وهادئاً .
هل يكون أبي باستهزائه منافقاً , وهل يسقط حق برِّه بذلك ؟ .
هل يجوز لي الدعاء عليه ؟ أحياناً تحدث بيننا مشادة كلامية وقد أرفع صوتي عليه , هل أكون بذلك عاقّاً له ؟ أرجو من فضيلتكم إفادتي ، ونصحي مع ذكر الدليل من الكتاب والسنَّة أو فعل من أفعال سلفنا الصالح ؛ حتى أجد شيئاً أقتدي به في مثل هذا الموقف ؟ .
و جزاكم الله عنا كل خير .
 

الجواب

الحمد لله.


أولاً :
نسأل الله تعالى أن يفرِّج همك ، ويزيل كربك ، وأن يهدي والدك للحق ، ولا بدَّ من تنبيهك لبعض الأمور التي قد تخفى عليك ، ولها تعلق بسؤالك ، وهي مفيدة لحالك ، وهي تصلح لأن تكون تنبيهات لكل من يعاني من منع أهله له من الالتزام في المساجد ، ومع الصالحين :
1. ينطلق بعض الآباء من منع أبنائهم من الالتزام في حلقات المسجد ، أو من مصاحبة بعض المستقيمين لا من منطلق بغضهم للإسلام ، بل من خوفهم على أبنائهم من أن تجترفهم بعض التيارات والأحزاب التي قد تؤدي بهم إلى انحراف في الفكر والاعتقاد ، والغالب يخاف من ضرر أو أذى دنيوي ، فينبغي على الأبناء مراعاة هذا الأمر في تعاملهم مع آبائهم الذين تصدر منهم أفعال في ظاهرها معاداة للدين ، وفي حقيقتها تحذير من الانتساب لجماعات وأحزاب قد تأتي بالضرر على الابن وأسرته .
ومن الحكمة في تعامل الأبناء مع هؤلاء الآباء مد جسور الثقة بينه وبين والده ، وإطلاعه على من يصاحب من المستقيمين ، حتى يُدخل الطمأنينة على قلبه .
2. لا يحل للأبناء أن يتسببوا في كلمات يقولها أهلوهم ، ويكون فيها طعن وشتم للدين ، فبعض الأبناء إذا منعهم والدهم من المشي مع فلان من الناس : سارع إلى القول : شرع من هذا ؟ أو بأي دين ؟ أو هل تكره الرسول وأصحابه ؟ وغيرها من الأسئلة التي قد يبادر الوالد للإجابة عليها بما يضر دينه ، ومنه ما حصل معك مع والدك هنا ، فعندما أنكر عليك حمل الكتاب الذي التقطته من الشارع لم يكن يعني الطعن في كلام الله ورسوله ، وإلا فلو رأى مصحفاً في حقيبتك فهل سيقول ما قاله في الكتاب الذي التقطته من الشارع ؟ فلم يكن من الحكمة أن تبادر والدك إلى قولك " كلام الله ورسوله زبالة ؟ " !! فبالإضافة إلى عدم جواز قولك هذا ابتداء فإنك قد تسببت بجوابٍ سيء من والدك ، وأنت تعلم أنك أنكر الأوراق الممزقة والتي قد تكون لها رائحة وعليها قذر ، ولم يكن ينكر عليك الآيات والأحاديث نفسها .
ومثله عندما منعك من المشي مع أحد جيرانكم فسارعت إلى القول : في شرع من هذا ؟ " حتى قال لك : " في شرع أبي ! " ، وأنت تريد الشرع بمعنى الدين ، وهو – لعله – يريد القانون والنظام ، أو أنه أراد الشرع الإسلامي فأساء في اللفظ .
واعلم – يا أخي – أننا لسنا نقصد في الجواب واقعتك وحدها ، بل هو جواب لكل من يعاني من سوء تصرفات أهله معه ، ونريد أن نذكر إخواننا بأنه قد تكون الأخطاء ابتداء منهم ، وإلا فقد يكون والدك ، أو أمثاله ، شيطاناً مريداً ، والعياذ بالله ، لكننا نريد التنبيه على الأفعال لا الحكم على الأشخاص .
3. لا يجب عليك التقاط الأوراق التي تُرمى في الشارع ، كما لم يكن من الحكمة إحضارها للبيت وأنت تعلم – بحسب قولك – أن والدك من عادته الاطلاع على ما في حقيبتك ، ولم يكلفنا الشرع بالتقاط الأوراق من الشارع وإلا ضاع عمرنا في الشوارع لكثرة ما يُلقى فيها من صحف وكتب يكون فيها آيات وأحاديث ، وإنما يكون المسلم مسئولاً عن أوراقه هو ، وعما يُلقى في بيته أو مكان إقامته ، ولا مانع من التقاط الملقى في الشارع إذا كان لا يشق عليه ، وكان قليلاً ، لكن ليس على أنه واجب شرعي .
سئل علماء اللجنة الدائمة :
ما حكم من يضع متاعه أو حاجياته أو يلفها في كتب أو ورق يحتوي على سور وآيات من القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فأنكر عليه شخص بالقول ، فرد عليه فقال - أي : الذي يضع البضاعة - : لا بأس بهذا ، ولا ضرر في ذلك ، واستمر في عمله هذا ، وقال : لا أجد غير هذا الورق ، مع العلم أنه يقرأ ويكتب ، وهذه ظاهرة شائعة عندنا ، فما حكم الله في هذا العمل ؟ وهل أسير في الشارع راكعاً لجمع تلك الآيات والسور التي كثر رميها على الأرض في حين أن الناس تسخر مني ؟ فماذا أفعل لإزالة هذا المنكر المنتشر ؟ .
فأجابوا :
أولاً : لا يجوز أن يضع المسلم متاعه ، أو حاجته ، في أوراق كتب فيها سور وآيات من القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية ، ولا أن يُلقي ما كتب فيه ذلك في الشوارع والحارات والأماكن القذرة ؛ لما في ذلك من الامتهان ، وانتهاك حرمة القرآن ، والأحاديث النبوية ، وذكر الله ، ودعوى أنه لا يجد غير هذا الورق : دعوى يكذبها الواقع ، فإن وسائل صيانة المتاع كثيرة ، وفيها غنية عن استعمال ما كتب فيه القرآن ، والأحاديث النبوية ، أو ذكر الله ، وإنما هو الكسل وضعف الدين .
ثانياً : يكفيك للخروج من الإثم والحرج : أن تنصح الناس بعدم استعمال ما ذكر فيما فيه امتهان ، وأن تحذرهم من إلقاء ذلك في سلات القمامة ، وفي الشوارع ، والحارات ، ونحوها ، ولست مكلفاً بما فيه حرج عليك مِن جعل نفسك وقفاً على جمع ما تناثر من ذلك في الشوارع ونحوها ، وإنما ترفع من ذلك ما تيسر منه دون مشقة وحرج .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 4 / 73 – 75 ) .
4. يجب على الأبناء مراعاة الضغط الإعلامي الهائل على الأهل في تحذيرهم من التطرف والتشدد ، وتصوير ذلك أن منبعه من المساجد وأهل الاستقامة ، ومثل هذا الضغط الإعلامي وجد أرضية قابلة لقبوله من الجهل الذي يعيش فيه كثير من العوام ، فيحتاج الأمر من الأبناء إلى وضوح في الأفعال ، وإظهار لأحسن الأخلاق والأقوال حتى يحكم أهلوهم على ما يسمعونه من الإعلام بأنه كذب وزور .
5. واعلم أنه إن كان والدك مرتداً كافراً : فإنه يجب عليك التلطف في معاملته ، والإحسان إليه بما تستطيعه ، لا أنه يستحق ذلك – لأن حكم المرتد غير الكافر الأصلي – بل لحاجتك لأن يهديه الله تعالى ، ويترك معاداته للدين وينتظم في سلك المسلمين الموحدين .
فلا ترفع صوتك عليه ، ولا تهنه ، ولا تغلظ له بالقول ، وإن كنت تود الدعاء : فادع له بدلا من أن تدع عليه ، فلعلَّ الله تعالى أن يستجيب لك فيهديه .
6. يجوز لك أن تبغض أفعال وأقوال والدك ، ويحل لك أن تبغضه نفسه ، إن ثبت وقوعه في الردة ، ويجوز لك الخروج من البيت إن رأيتَ أن بقاءكَ في البيت يؤثر سلباً على استقامتك وقيامك بشعائر دينك ، وإن رأيت أن بقاءك لا يؤثر على دينك واستقامتك ، ويستفيد أشقاؤك ووالدتك من بقائك : فابق معهم ولا تغادر .
سئل علماء اللجنة الدائمة :
ما حكم الوالد الذي يسب الدين هل يكفر بدون إعلان ؟ وإذا أنكر عليه هذا الأمر ، وعرف بأن سبَّ الدِّين كفر يعود مرة بعد مرة إلى هذا الأمر ، ما حكم هذا الأب ؟ مع العلم بأنه يظهر التوبة ، ثم لا يلبث إذا ثار يقول هذه الكلمة ، وهذا يحدث كل فترة ، فما حكم هذا الوالد ؟ وما حكم تعامل الابن معه ؟ هل يهجره ويترك المنزل ؟ مع أنه شاب صغير لا يستطيع العمل ، وإذا ترك المنزل فإنه سيترك الكلية ويذهب ليعمل أي عمل آخر بعيدا عن هذا المنزل .
فأجاب :
يجب عليك الاستمرار في نصحه ، ومتى تبين لك أن النصح لا يفيد فيه فأنت أعلم بظروفك ، فإذا كنت تعلم أن بقاءك في البيت أكثر مصلحة : فإنك تبقى ، وإذا تبين لك أن ترك البيت أصلح : فإنك تتركه ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ونذكرك بقول الله سبحانه : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 25 / 276 ، 277 ) .
ثانياً :
وأما والدك فإننا نقول له :
1. اتق الله في نفسك ، واغتنم حياتك قبل مماتك ، فلو أدركك الموت وأنت على هذه الحال فإنه سيكون أسوأ حال ، وكان الواجب عليك أن تتروى في كلامك ، وفي أجوبتك لابنك ، وبعض كلامك كفرٌ صريح ، فنخشى عليك أن تموت عليه ، فإهانة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كفرٌ مخرج من الإسلام بلا خلاف بين العلماء .
2. وكان الواجب عليك أن تشجع ابنك على الطاعة والاستقامة والالتزام مع أهل الخير ، ولا مانع من أن تتابعه وتراقبه ، لكن ليس عليك منعه من المسجد والطاعة والدعوة ، والابن المستقيم على الطاعة خير لأهله في الدنيا والآخرة ، فمثل هؤلاء هم الذين ترجى منهم الطاعة والإنفاق والرحمة على أهليهم ، وهم الذين يستغفرون لأهليهم بعد موتهم ، ويدعون لهم بخير بعد وفاتهم .
3. ولا يحل لك أن تأمر ابنك بحلق لحيته ، فحلق اللحية محرَّم ، ولا يجوز لك أن تأمر ابنك بمعصية ، بل يجب أن تشجعه على الطاعة والاستقامة ، وأن تنهى من يحلق لحيته من أبنائك لا العكس ، وأن تنهى من تتبرج من بناتك لا العكس ، وهكذا .
وأما أن تسعى في تمكين الظلم من عرض ابنك وبدنه ، فيسجنوه أو يؤذوه ، فهذا انتكاس في فطرة الأبوة التي جعلها الله فيك ، وشذوذ في عاطفتك نحوه ؛ ألم تعلم يا عبد الله أن الله سائل كل راع عما استرعاه : حفظ أم ضيع . [ رواه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني ] .
ألم تعلم ، يا عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) [ متفق عليه ] .
فكيف إذا كان هذا المسلم هو ابنك ، وفلذة كبدك ؟!!
لقد صدق القائل :
وراعي الشاةِ يحمي الذئبَ عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئابُ

4. لا يجوز لك ظلم زوجتك ، ولا الإساءة إليها ، وقد أمرك الله تعالى بمعاشرتها بالمعروف ، فلا يحل لك ما تفعله معها من ظلم وإساءة .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي ) رواه ابن ماجة (1977) وصححه الألباني .
وأخيراً :
فإننا ندعو الوالد للتوبة والاستغفار مما بدا منه ، وندعوه لإصلاح قوله وفعله ، وأن يتدارك أمره قبل أن ينتهي أجله ويلقى ربه ، وندعوه لتشجيع أولاده على الطاعة والاستقامة ، ولا بأس من توجيههم ونصحهم فهم يحتاجون لذلك ، لكن لا يحل لهم منعهم من الطاعات الواجبات ، ولا أن يكرههم على ارتكاب المحرمات ، وليس له طاعة إن فعل ذلك ، وأولاده آثمون إن استجابوا له .
وندعو الابن للتحلي بالصبر ، وندعو إلى معالجة الأمور بحكمة ، وأن يعلم أن والده لا يكره له الخير ، لكنه يجهل الخير من الشر ، فعليه مسئولية دلالة والده على الخير لنفسه ولأهله وذريته .
والله الموفق .
 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب