الحمد لله.
ثانيا :
عرف الإنسان التدوين والتسجيل منذ زمن طويل ، واستخدَّم الحجارة ، والأشجار،
والمعادن ، لهذا الغرض ، والشاهد على ذلك جدران المعابد التي جعلها الإنسان مادة
للتدوين والكتابة، كما يوجد على الأبنية المصرية القديمة ، ثم استحدث مادة جديدة
وهي ورق البردي, الذي استخدم في صناعته نبات البردي .
ثم قام الصينيون بصناعته من عجينة مُشكلَّة من ألياف القنب ، ولحاء شجر التوت ،
والخرق البالية ، حيث كانت تخمر، ثم تفرد لتجف ، وتستخدم للكتابة عليها.
وبعد الميلاد ظهرت أنواع مختلفة من الورق ، فاستخدم الأنجلوساكسون لحاء شجر الزان ،
أما الرومان والإغريق ، فقد استخدموا أنواعاً رقيقة من جلود الماعز وصغار الأبقار
في كتابة الصكوك .
وعند وصول الفتح الإسلامي لأواسط آسيا، اتصل المسلمون بالحضارة الصينية ، وأخذوا
عنها صناعة الورق ، فأنشأ المسلمون مصنعاً للورق في سمرقند عام 751م.
ومنذ ذلك الحين انتشرت صناعة الورق في ربوع الخلافة الإسلامية ، شأنها في ذلك شأن
أي صناعة حضارية عرفها المسلمون وطوروها، فأنشأ هارون الرشيد مصنعا للورق في بغداد
مستعيناً بالمهرة من عمال تلك الصناعة القادمين من سمرقند ، ثم ما لبثت صناعة الورق
أن انتشرت وازدهرت ، فأنشأ المسلمون مصانع للورق في مصر والمغرب العربي .
ولم تعرف أوروبا صناعة الورق إلا على أيدي المسلمين ، حيث قاموا بتشييد مصنع للورق
بمدينة فالينسيا بالأندلس عام 1100م، ثم في مدينة فبريانو بصقلية عام 1276م.
ومنهما انتقلت تلك الصناعة إلي باقي أوروبا، فظهرت صناعة الورق في تورين بإيطاليا
عام 1348م، وعرفتها ألمانيا عام 1391م، ثم المملكة المتحدة في القرن الخامس عشر.
http://uqu.edu.sa/page/ar/108450
ثالثا :
كان القرآن الكريم موضع اهتمام المسلمين من أول يوم تنزل فيه على رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فوعاه الصحابة وحفظوه، وكتبوه ، وعملوا بما فيه ، وكان ما قام به
أبوبكر الصديق بمشورة عمر رضي الله عنهما من جمع القرآن ، مما هو مكتوب أو محفوظ في
عهده صلى الله عليه وسلم ، عملا عظيماً حُفظ به القرآن ، وسار على نهجه عثمان بن
عفان رضي الله عنه ، عندما جمع الناس على مصحف واحد ، ومنع الاختلاف بين المسلمين ،
وقد نال زيد بن ثابت رضي الله عنه شرف تحمل مسؤولية جمع القرآن في عهد أبي بكر،
وكتابته في عهد عثمان.
وكان حرص المسلمين على تَعَلُّم الكتابة، وتطوير الخط ، مرتبطاً بحرصهم على قراءة
القرآن الكريم وتدبره وحفظه ، والعناية بكتابته ونشره .
ويعدّ ما قام به أبو الأسود الدؤلي وتلاميذه من بعده من نَقْطٍ للمصحف الشريف عملا
مفيدا ، حفظ القرآن الكريم من اللحن والتحريف ، ومثل ذلك ما قام به نصر بن عاصم ،
ويحيى بن يَعْمَر ، عندما فرَّقا بين الحروف المتفقة رسماً ، والمختلفة نطقاً، وهو
ما يعرف بنقْط الإعجام.
ولم يكن المسلمون في العصر العباسي أقل اهتماماً بكتاب الله الكريم منهم في العصر الأموي، حيث قام إمام اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي وتلاميذه من بعده بتطوير نقْط الإعراب (الشكل) على هيئة تميزت بالوضوح، وسهولة الفهم.
ثم تفنن المسلمون في العصور اللاحقة في تجويد كتابة مصاحفهم والعناية بها، وفي كل عصر، بل وفي كل قطر برز خطاطون بلغوا الكمال في حسن الخط وتجويده ، فجاؤوا بما يُبْهر من الخطوط المنسوبة ، التي خلَّدت ذكرهم على مرّ العصور، وعلى رأس هؤلاء قُطْبة بن المحرِّر، وابن مقلة، وابن البواب، والمستعصمي.
وفي أوربا كانت بداية معرفة
المطابع الحديثة ، وفيها كانت بداية طباعة المصحف الشريف ، إلا أنها كانت طباعة
رديئة ومحرفة ، لم تلتزم بما أجمع عليه المسلمون في رسم مصاحفهم ، فكان مصير تلك
الطبعات العزوف عنها وإهمالها.
وعندما عرف المسلمون الأتراك المطابع الحديثة المصنوعة في الغرب أحجموا عن طباعة
مصاحفهم فيها ، حتى صدرت فتوى من علمائهم بجواز ذلك.
لم يلتزم المسلمون في بعض البلاد في العصور المتأخرة بقواعد الرسم العثماني في
كتابة مصاحفهم ، بل ساروا فيها على قواعد الرسم الإملائي الحديث، حتى كتب رضوان بن
محمد المخلَّلاتي مصحفه الشهير، وطبع في عام 1308هـ، فالتزم فيه بالقواعد التي
أجمع عليها وارتضاها الصحابة والتابعون .
ثم تنامى اهتمام المسلمين بكتابة المصحف الشريف وطباعته واستخدام وسائل الطبع
الحديثة في بعض البلاد الإسلامية، والعمل على نشر القرآن الكريم بوسائل مختلفة.
"تطور كتابة المصحف الشريف وطباعته" (ص 20) بترقيم الشاملة .
وقال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله :
" تنوعت مظاهر العناية بالقرآن الكريم- بعد الصدر الأول -، وبخاصة من ناحية كتابته
وتجويدها، وتحسينها، ثم إعجام الحروف. ومهر جمهرة من الخطاطين على مرّ العصور
ببراعة الخط وجماله، وكتبوا المصاحف الخاصة والعامة، وكان الغالب في كتابة المصاحف
الخط الكوفي حتى القرن الخامس الهجري، ثم كتبت بخط الثلث حتى القرن التاسع الهجري،
ثم استقرت كتابتها بخط النسخ إلى وقتنا الحالي.
ومع ظهور الطباعة برزت عدة طبعات مبكرة للقرآن الكريم في أوربا، اكتنفتها دوافع
مريبة ، ولم تلق الذيوع ولا القبول عند المسلمين؛ لما فيها من أخطاء شنيعة،
ولمخالفتها قواعد الرسم العثماني.
كما صدرت بعد ذلك طبعات للقرآن الكريم في بلدان أخرى، إلا أنها لم يلتزم فيها الرسم
العثماني.
وبقي الأمر على ذلك حتى طبع المصحف الذي كتبه الشيخ المقرئ أبو عيد رضوان بن محمد
المخللاتي عام (1308 هـ) في المطبعة البهية بالقاهرة، وراعى فيه أصول الرسم والضبط،
ووضع له ستة أنواع من علامات الوقف والابتداء.
ثم توالت طبعات المصحف الشريف في مصر، وغيرها من أقطار العالم الإسلامي" انتهى .
http://qurancomplex.gov.sa/Display.asp?section=4&l=arb&f=write00001&trans=
رابعا :
بلغت العناية بتجويد الخط بتركيا حدًّا بعيدًا، وأنشئت في الآستانة سنة 1326 هـ
أول مدرسة خاصة لتعليم الخط والنقش والتذهيب ، وطوَّروا ما أخذوه من مدارس سبقتهم
في تجويد الخط؛ مثل: قلم الثلث والثلثين اللذين أخذوهما من المدرسة المصرية، وخط
النسخ من السلاجقة، بل وزادوا على ذلك أقلامًا جديدة لأول مرة؛ مثل الرقعة،
والديواني، وجلي الديواني، وتفردوا أيضًا بخط الطغراء، وهو في أصله توقيع سلطاني،
وخط الإجازة وهو يجمع بين النسخ والثلث، والهمايوني، وهو خط مُوَلّد عن الديواني.
ولم يزل الأتراك ممسكين بزمام التفوق في تطور الخط العربي حتى سنة 1342 هـ عندما
استبدلوا الحرفَ اللاتيني بالحرف العربي ، حيث انتقل قياد التفوق الخطي إلى مصر مرة
أخرى.
http://qurancomplex.gov.sa/Display.asp?section=4&l=arb&f=write00006&trans=
أما كيف كتب المصحف في العهد
العثماني ، ووصف ورقه : فلم نهتد إلى معرفة ذلك .
والغالب أنه من جنس هذه الأوراق التي نستعملها اليوم ، إلا أنه بجودة أقل ، من حيث
الملمس وجودة وسهولة الكتابة عليها ، إلى غير ذلك .
إلا أن الورق القديم يمتاز بأنه أكثر نقاوة ووضوحا ومقاومة لعوامل التحلل .
أما المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه : فكانت كلها مكتوبة على الورق (الكاغد)،
إلا المصحف الذي كان عنده بالمدينة، فإنه على رق الغزال .
"دليل الحيران" (ص 43)، "سمير الطالبين" (ص16) .
ويقول د. عبد الرحمن بن سليمان المزيني :
" يعود تاريخ أقدم مصحف إلى عام 488هـ، وهو بخط علي بن محمد البطليوسي، مكتوب على
رق الغزال وحجمه (15×13سم)، ويأتي بعده من حيث القدم مصحف نسخ عام 549هـ، وهي من
أزهى فترات الإبداع في فن الخطوط العربية، وهو بخط أبي سعد محمد إسماعيل بن محمد،
وحجمه (20×30) وتاريخ وقفه سنة 1253هـ " انتهى .
"المصاحف المخطوطة في القرن الحادي عشر" (ص 11) .
والله تعالى أعلم .