أعلم أن القرآن قد تم تجميعه فى زمن الخليفة أبي بكر، ومن ثم عمر بن الخطاب، ومن ثم عثمان بن عفان بشكل رسمي، ولاحقا تم تشكيله فى زمن خلافة علي بن أبى طالب رضوان الله عليهم جميعا.
سؤالي حول الشيعة وموقفهم من هذا التجميع، لماذا اختلف الشيعة فى مسألة تجميع القرآن، أو ليس القرآن واحدا حتى بالنسبة لهم، بالرغم من اختلافهم فى مسألة التجميع فى ذلك الوقت، أم إنهم فى ذلك الوقت تم تجميع القرآن بشكل منفصل أو منقسم لهم؟! يعني هل هناك أكثر من نسخة واحدة تم تجميعها من القرآن فيما يخص الفرق وكل ذلك؟
الحمد لله.
أولًا:
جُمِع القرآن الكريم، من الصحاف المتفرقة التي كان مكتوبا فيها، ومن صدور الرجال كذلك: في عهد أبي بكر، ثم في عهد عثمان رضي الله عنهما، عبر منهج من أعظم مناهج التوثيق، وقد بينا ذلك بما يغني عن إعادته هنا: (153908)، (10012)، (158824)، (23487)، (271340).
ثانيًا:
لقد اتفقت كلمة المسلمين جميعًا على أن القرآن كلام الله، وحجة من أعظم حججه على عباده، وأبلغها دلالة، وتقرر بينهم “أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه” “الموافقات” (3/ 200)، وهذا كله لا يحتاج إلى مزيد تقرير واستدلال؛ لأنه معلوم من الدين بالضرورة، وركيزة أساسية من ركائز العقيدة الإسلامية عند كل مقرٍّ بهذا الدين، ومُسلِّمٍ به.
كما أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على أن القرآن نُقِلَ إلينا بتمامه وكماله كلمةً كلمةً، وحرفًا حرفًا، سالمًا من النقصان أو التحريف، ومحفوظًا من عبث العابثين .
وقد حكى أبو محمد ابن حزم – وهو من المتثبتين في نقل الإجماع، ونسبته لأصحابه – الاتفاق على الأمرين السابقين، من جميع الفرق المنتمية إلى الإسلام؛ كأهل السُّنَّة، والمعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والزيدية، فكلهم يوجب “الأخذ بما في القرآن، وأنه هو المتلوُّ عندنا نفسه، وإنما خالف في ذلك قوم من غُلاة الروافض، هم كفار بذلك، مشركون عند جميع أهل الإسلام”. “الإحكام في أصول الأحكام” (1/ 91).
ثالثًا: موقف الشيعة من القرآن الكريم .
ينقسم الاتجاه الشيعي الإمامي من حيث المنهج إلى اتجاهين: الاتجاه الأخباري، والاتجاه الأصولي:
فالأخبارية هم: من يعتمد في استنباط الأحكام على الأخبار فقط، كما يعرفهم بذلك شيخ الأخباريين المتأخريين الإسترآباد.
أي: إنَّه اتجاه يعتمد على النقل فقط، ولا يرى للعقل مكانًا واعتبارًا .
والأصوليون هم: “الذين يلجؤون في مقام استنباط الأحكام إلى الأدلة الأربعة من الكتاب، والسنة، والإجماع، ودليل العقل”.
وبعد معرفة انقسام الشيعة الإثني عشرية إلى هذين الاتجاهين، فلك أن تعلم أن الشيعة انقسموا حول قضية وقوع التحريف في القرآن إلى اتجاهين أيضًا:
الاتجاه الأول: قول جل الأخباريين، وعدد من علماء الأصوليين، وهم يرون وقوع التحريف في القرآن الكريم – عياذًا بالله – سواء أكان تحريفًا بالزيادة أو النقصان .
الاتجاه الثاني: قول جماهير الأصوليين، وهم يرون نفي وقوع التحريف، وسلامة القرآن من أي نوع من أنواع الزيادة أو النقصان .
وقد حاول بعض علماء الشيعة نفي هذا الاتهام، ونقل الإجماع على سلامة النص القرآني من وقوع التحريف بالزيادة أو النقص، غير أن هذا ما لا يمكن أن يكون، لا سيما مع وجود الكتب التي تصرح بوجود التحريف .
ولكن هذا يثبت شناعة هذا القول، مما دفع علماء الشيعة أنفسهم إلى إنكار هذا الأمر، والتشنيع على قائله، وقد قال الشريف المرتضى: “إن العلم بصحة نقل القرآن، كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرًا ومنقوصًا مع العناية الصادقة والضبط الشديد”.
ثم ذكر أنه لو رام أحد الزيادة أو النقص من كتاب مشهور، ككتاب سيبوبه والمازني: لعُرف ونقل، لأن أهل العناية بهذا الشأن: ” يعلمون من تفصيلهما، ما يعلمونه من جملتهما؛ حتى لو أن مُدْخِلًا أدخل في كتاب سيبويه بابًا في النحو، ليس من الكتاب: لعُرف ومُيِّز، وعُلم أنه ملحق، وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المازني.
ومعلوم أن العناية بالقرآن وضبطه أصدق من العناية بنقل كتاب سيبويه ودواوين الشعراء”.
وقد قام سائر علماء المسلمين بالرد عليهم، وتكاد كلمة المعتزلة والأشاعرة تتفق على وسمهم بتلك التهمة.
وقد أَلَّف يحيى بن الحسين، الزيدي المعتزلي، كتابًا اسمه: “الرد على من زعم أن القرآن قد ذهب بعضه”، ويظهر من عنوانه أنه في الردِّ على الشيعة الإمامية، كما يعطي إشارة إلى تبرئة الزيدية من تلك التهمة، كذلك شنَّ الخياط حملة شديدة على الروافض في كتابه “الانتصار”، واختصهم بالنصيب الأوفر من هجومه، وكرر في أكثر من موضع أنهم يزعمون أن: “القرآن بُدِّل وغُيِّر، وزِيدَ فيه ونُقِص منه، وحُرِّف عن مواضعه”.
وفي عهد القاضي عبد الجبار وصلت صلة التمازج، والتقارب السياسي والفكري، بفعل تراكم المؤثرات المتبادلة بين الاعتزال والتشيع بفرعيه: الزيدي، والاثنى عشري، إلى أقصى تطور لها؛ لكن هذا التواصل لم يحل بين القاضي ونقد الموقف الشيعي من القرآن.
وحينما عدَّد مخالفي المعتزلة في القرآن، جعل من بينهم الإمامية، الذين جوَّزوا وقوع الزيادة والنقصان، وزعموا أنه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أضعاف ما هو موجود بيننا، وقد ألزمهم القاضي متابعةً للجاحظ بصحة المصحف العثماني، استنادًا إلى إقرار علي رضي الله عنه به، وعدم إنكاره عليه، كما وافق شيخه أبا علي الجبائي في استبعاد أن يكون قائل تلك المقالة مسلمًا؛ لأن الخطأ في الاجتهاد لا يصل بحال إلى هذه الهوة السحيقة من الطعن في القرآن، ونسبة التحريف إليه، فلا بد أن يكون مبتكرها ممن أكل الحقد على الإسلام قلبه فأنشأ هذا المذهب للطعن فيه تحت شعار التشيع، وحب أهل البيت.
وأئمة الأشاعرة بدورهم ينسبون القول بالتحريف إلى الرافضة، وإن اختلفوا في انطباق ذلك على المذهب كافة، أو على بعض أفراده فحسب.
انظر أقوالهم في: “أصول مذهب الشيعة”، للقفاري (1/200)، وما بعدها، و”مقالات الإسلاميين” (1/ 119)، و”نكت الانتصار” (426).
وانظر هذا المبحث مع أدلة نفي التحريف، في مقدمة: عمرو الشرقاوي، للاعتناء بكتاب النبأ العظيم للدكتور محمد دراز، نشر مركز تفكر للبحوث والدراسات .
والله أعلم.