الحمد لله.
أولا:
يجب على المرأة ستر وجهها، للأدلة الشرعية الواردة في وجوب ستر المرأة وجهها أمام الرجال الأجانب.
ولها في كيفية الستر طريقتان:
إما أن تسدل على وجهها ما يغطيه بالكامل، ولا يبدو منه شيء ، وتنظر من خلال ذلك الغطاء.
وإما أن تلبس النقاب أو " البرقع "، وهو الذي يغطي الوجه ويكشف العينين.
وفي صحيح البخاري (1838): ( لَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ ، وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ )، فنهي المحرمة عن لبس النقاب يدل على جواز لبسه في غير حال الإحرام ؛ بل على أكثر من الجواز، وهو أنه لباس شائع معتاد للنساء.
لذلك أجاز الفقهاء والعلماء للمرأة لبس النقاب ، ولكن بشرط عدم المبالغة في كشف محاجر العينين ، أو التوسع في كشف جزء من الخدين.
قال الإمام الرملي الشافعي رحمه الله:
" حرم النظر إلى المنتقبة التي لا يبين منها غير عينيها ومحاجرها ، ولا سيما إذا كانت جميلة ، فكم في المحاجر من خناجر " انتهى باختصار من "نهاية المحتاج" (6/188).
وينظر الفتوى رقم: (11774)، (219722)
ثانيا:
لم يرد في الوحي ما يدل على وجوب ستر المرأة لإحدى عينيها، كما أنه لم يرد عن الصحابيات رضوان الله عليهن – فيما وقفنا عليه - أنهن كن يفعلن ذلك.
وغاية ما ورد في هذا، ما رواه الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه، حيث قال رحمه الله تعالى:
" ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به، فقال بعضهم: هو أن يغطين وجوههن ورءوسهن فلا يبدين منهن إلا عينا واحدة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: حدثنا أَبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ): ( أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة ) " انتهى من "تفسير الطبري" (19/181).
وإسناد هذا الخبر عن ابن عباس رضي الله عنه، محل نظر عند أهل العلم؛ لأن علي ابن أبي طلحة، لم يسمع من ابن عباس بالاتفاق.
قال أبو يعلى الخليلي:
" وتفسير معاوية بن صالح قاضي الأندلس، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: رواه الكبار عن أبي صالح كاتب الليث، عن معاوية.
وأجمع الحفاظ على أن ابن أبي طلحة لم يسمعه من ابن عباس " انتهى من "الارشاد" (1/ 393 — 394).
لكن رأى بعض أهل العلم أنه وإن لم يسمع منه؛ إلا أن الواسطة بينهما ثقة.
قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى:
" واحتملنا حديث علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإن كان لم يلقه؛ لأنه عند أهل العلم بالأسانيد إنما أخذ الكتاب الذي فيه هذه الأحاديث عن مجاهد، وعن عكرمة " انتهى من "شرح مشكل الآثار" (6/283).
وقال أبو جعفر النحاس رحمه الله تعالى:
" والذي يطعن في إسناده يقول: ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وإنما أخذ التفسير عن مجاهد وعكرمة.
وهذا القول لا يوجب طعنا؛ لأنه أخذه عن رجلين ثقتين، وهو في نفسه ثقة صدوق " انتهى من "الناسخ والمنسوخ" (1/ 461 – 462).
لكن لم يقم دليل على أن عليا قد أخذ كل ما يرويه من تفسير ابن عباس عن مجاهد، وعن عكرمة.
كما أن في بعض رجال إسناده مقال.
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" وهذا السند ضعيف عندهم، إلا أن البخاري يستأنس بما روي به فيعلقه في صحيحه، وأبو صالح ومعاوية بن صالح مختلف فيهما، وعلي بن أبي طلحة فيه شيء، ونص الأئمة أنه لم يسمع من ابن عباس، ولكن ذكروا أنه سمع التفسير من مجاهد عن ابن عباس، وهذا لا يغني؛ لأننا لا ندري في هذه الرواية أممّا سمعه من مجاهد هي أم لا؟ " انتهى من "آثار الشيخ عبد الرحمن المعلمي" (3/1015).
وقال رحمه الله تعالى:
" طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، وفي كل منهم كلام، وهو مع ذلك منقطع، فإن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وصحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَستأنس بها أهل العلم، ولا يحتجون بها " انتهى من "آثار الشيخ عبد الرحمن المعلمي" (17/659).
فالحاصل؛ أن غاية الأخبار الواردة عن ابن عباس بهذا الإسناد؛ أنها مما يستأنس بها، أما أن تكون حجة، فلا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" تفسير الوالبي - علي بن أبي طلحة - الذي رواه عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس... أما ثبوت ألفاظه عن ابن عباس ففيها نظر؛ لأن الوالبي لم يسمعه من ابن عباس ولم يدركه، بل هو منقطع، وإنما أخذ عن أصحابه، وكما أن السدي أيضا يذكر تفسيره عن ابن مسعود، عن ابن عباس، وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليست تلك ألفاظَهم بعينها، بل نقل هؤلاء شبيه بنقل أهل المغازي والسير، وهو مما يُستشهد به، ويعتبر به، ويُضم بعضه إلى بعض فيصير حجة ... " انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (5 / 520 — 522).
وكذا ورد تغطية عين وإظهار أخرى بإسناد رواته ثقات عن عبيدة السلماني.
قال الطبري في "التفسير" (19/181): حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حدثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ: فِي قَوْلِهِ: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ) فَلَبِسَهَا عِنْدَنَا ابْنُ عَوْنٍ، قَالَ: وَلَبِسَهَا عِنْدَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ مُحَمَّدٌ: " وَلَبِسَهَا عِنْدِي عُبَيْدَةُ؛ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ بِرِدَائِهِ، فَتَقَنَّعَ بِهِ، فَغَطَّى أَنْفَهُ وَعَيْنَهُ الْيُسْرَى، وَأَخْرَجَ عَيْنَهُ الْيُمْنَى، وَأَدْنَى رِدَاءَهُ مِنْ فَوْق، حَتَّى جَعَلَهُ قَرِيبًا مِنْ حَاجِبِهِ أَوْ عَلَى الْحَاجِبِ ".
وقال أيضا (19/182): حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حدثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ عُبَيْدَةَ، عَنْ قَوْلِهِ: ( قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ). قَالَ: " فَقَالَ بِثَوْبِهِ، فَغَطَّى رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، وَأَبْرَزَ ثَوْبَهُ عَنْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ ".
وعبيدة السلماني من كبار التابعين، وقوله يستأنس به، لكن ليس بحجة في وجوب تغطية إحدى العينين.
وروى ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (10/169)، قال: أخبرنا محمد بن عمر، عن ابن أبى سبرة، عن أبى صخر، عن ابن كعب القرظى قال: " كان رجل من المنافقين يتعرّض لنساء المؤمنين يؤذيهنّ، فإذا قيل له قال: كنت أحسبها أمة. فأمرهنّ الله أن يخالفن زيّ الإماء ويدنين عليهنّ من جلابيبهنّ، تخمّر وجهها إلا إحدى عينيها. يقول: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ). يقول: ذلك أحرى أن يُعرفن ".
وهذا خبر ضعيف جدا؛ لأن ابن أبي سبرة متهم بوضع الأحاديث.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" محمد بن عَبد الله بن أبي سبرة، أَبو بكر المَدنيّ.
شيخ الواقدي معروف بكنيته.
قال أَحمد بن حنبل: كان يضع الحديث " انتهى من "ميزان الاعتدال" (4/159).
ومحمد بن عمر هو الواقدي، وهو ضعيف الحديث لا يحتج به.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" الواقدي رحمه الله ضعيف عند أهل الحديث وغيرهم لا يحتج برواياته المتصلة " انتهى من "المجموع" (1/114).
وقال الذهبي رحمه الله تعالى:
" وقد تقرر أن الواقدي ضعيف ، يحتاج إليه في الغزوات ، والتاريخ ، ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض، فلا ينبغي أن يذكر...
لا عبرة بتوثيق من وثقه... إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله " انتهى من "سير اعلام النبلاء" (9/469).
وتتابعت بعض كتب الحنفية في نسبة مثل هذا التفسير إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولا يعرف له إسناد عن عائشة رضي الله عنها.
وذكر أبو حفص النسفي في "التيسير في التفسير" (12/203):
" قال ابن سيرين: حدثتني أختي أنها رأت امرأة من المهاجرات أو الأنصاريات قد تنقَّبت هكذا " انتهى.
وهذا أيضا لا يعرف له إسناد.
وقد ورد ما يشير إلى جواز إظهار العينين جميعا.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَلاَ تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ) رواه البخاري (1838).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن " انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/371).
ومن المشهور عن النقاب أنه قد يكون فيه فتحة للعينين كلتيهما.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" تقول هل لبس البراقع جائز أمام الرجال الأجانب من غير غطاء العين أم لا؟
فأجاب: هذا المفهوم من كلامنا الأخير أنه جائز ولا بأس به، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا تنتقب المرأة إذا أحرمت )؛ فدل هذا على أن نقابها في غير الإحرام كان من عادتهن في ذلك الوقت ، فلا حرج على المرأة أن تنتقب في البلاد الأجنبية وتبرز عينيها . أما في بلادها التي اعتاد نساؤها أن يسترن وجوههن بدون نقاب ، فالأولى أن لا تنتقب ، وأن تستر وجهها كاملا كما هي عادة بلادها " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (11 / 93 — 94).
فالحاصل؛ أنه لم يرد ما يوجب على المرأة ستر إحدى العينين، لكن ما ورد من روايات عن ابن عباس وعبيدة السلماني يستأنس بها على أنه ينبغي للمرأة أن تبالغ في ستر وجهها.
والله أعلم.