أود أن أستفسر عن رواية تقول: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه اختبأ في بيته بعد إسلامه، حتى جاء العاص بن وائل فأمنه وأجاره، كيف نلائم بينها وبين حديث أن الله أعز الإسلام بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه؟
الحمد لله.
أولا:
قد صحّ أن عمر رضي الله عنه كان إسلامه عزة للمسلمين، كما في قول عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ" رواه البخاري (3863).
ووجه هذه العزة أن المسلمين كان كثير منهم يخفون إسلامهم، ولا يستطيعون أن يجهروا بذلك في المسجد الحرام ولا في نوادي قريش، فلما أسلم عمر رضي الله عنه، أصبح المسلمون يجهرون بالإسلام والقرآن أمام أهل الكفر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله: ( ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ) أي لِما كان فيه من الجلد والقوة في أمر الله.
وروى ابن أبي شيبة، والطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن مسعود كان إسلام عمر عِزّا، وهجرتُه نصرا، وإمارته رحمة. والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر " انتهى. "فتح الباري" (7/ 48).
ثانيا:
روى البخاري في "صحيحه" (3864)، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: " بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو، عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: " زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي أَنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ، فَخَرَجَ العَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الخَطَّابِ الَّذِي صَبَا، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ. فَكَرَّ النَّاسُ!! ".
وهذه الحادثة الثابتة برواية عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: لا تعارض حصول العزة بإسلامه، وذلك من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
أن عمر، وأي شخص مكان عمر، مهما كانت قوته وشجاعته: ليس بإمكانه أن يواجه القبيلة بأسرها، في موقف واحد، وقد احتشدت عليه حول داره، واجتمعوا على كلمة واحدة!!
كما في رواية البخاري " لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ، اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ دَارِهِ، وَقَالُوا: صَبَا عُمَرُ..."
لكن ذلك الجمع لا يتهيأ دائما في كل مرة، ولا في كل موقف، ومتى واجهوه زُرافاتٍ ووِحدانا، أمكن لعمر أن يغلبهم، وأن يظهر بأسه فيهم.
وكذا، لو انضم عمر إلى غيره من المسلمين، فقوَّى ظهره، وأعزه. وهذا ظاهر، إن شاء الله.
الوجه الثاني:
أن العزة لا تعني عدم حصول الخوف مطلقا، وإنما تعني عدم تأثير الخوف في قرارات الشخص، وعمر رضي الله عنه لم يدفعه الخوف من الأذى إلى الاختفاء في مكان لا يعرف، أو الفرار من مكة، ولا إلى التراجع عن اظهار إسلامه، بل صبر على إظهار إسلامه، وهذا التصرف دليل على كمال الشجاعة والعزة.
الوجه الثالث:
أن عزة عمر رضي الله عنه كانت لقوته وقوة شخصيته من جهة، ومن جهة أخرى لمكانته عند سادة قريش، وهذا الذي أظهرته هذه الحادثة، حيث دافع عنه العاص بن وائل، وهذا كان من أسباب استمرار عمر رضي الله عنه في الجهر بإسلامه والاعتزاز به، واقتداء سائر الصحابة به في ذلك.
والله أعلم.