هناك أحاديث قليلة أنّ القرآن نزل بنفس عبارة عمر، هذه الآية نزلت متطابقة مع ما قاله عمر، فهل هذا الحديث صحيح؟ وإذا كان صحيحًا، هل يثبت أن البشر يمكنهم أن يأتوا بآيات مثل القرآن، مثل عمر في هذه الحالة؟ هل هذه الحجة تُثبِت أنَّ القرآن تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، باطل؟
التحدي هو في الإتيان بسورة ولو قصيرة، وذلك لم يقع من عمر ولا غيره، ولا يكون إلى يوم القيامة.
الحمد لله.
أولا:
القرآن معجز لا يمكن لأحد أن يأتي بمثله، ولا بسورة منه.
وقد تحدى اللهُ العرب الفصحاء أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة، فعجزوا عن ذلك.
قال الله تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) البقرة/23.
فانتهى التحدي إلى سورة، ولو قصيرة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ” فأمر من ارتاب في هذا القرآن الذي نزّله على عبده، وأنه كلامه، أن يأتي بسورة واحدة مثله، وهذا يتناول أقصر سورة من سوره ” انتهى من “الصواعق المرسلة” (1 / 234).
وقال السيوطي رحمه الله: ” ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء، وتحداهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السنين، فلم يقدروا، كما قال تعالى: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}، ثم تحداهم بعشر سور منه، في قوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله}، ثم تحداهم بسورة في قوله: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله} الآية، ثم كرر في قوله: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} الآية.
فلما عجزوا عن معارضته، والإتيان بسورة تشبهه، على كثرة الخطباء فيهم، والبلغاء؛ نادى عليهم بإظهار العجز، وإعجاز القرآن، فقال: {قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}.
هذا، وهم الفصحاء اللُّدّ، وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره، وإخفاء أمره، فلو كان في مقدرتهم معارضته: لعدلوا إليها، قطعا للحجة” انتهى من “الإتقان” (4/ 4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وهذا التحدي كان بمكة، فإن هذه السور مكية؛ سورة يونس، وهود، والطور.
ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال في (البقرة) وهي سورة مدنية: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} [البقرة: 23] .
ثم قال: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24] .
فذكر أمرين:
أحدهما: قوله: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار}، يقول: إذا لم تفعلوا، فقد علمتم أنه حق، فخافوا الله أن تكذبوه، فيَحيق بكم العذاب الذي وعد به المكذبين، وهذا دعاء إلى سبيل ربه بالموعظة الحسنة، بعد أن دعاهم بالحكمة، وهو جدالهم بالتي هي أحسن.
والثاني قوله: {ولن تفعلوا}
و(لن) لنفي المستقبل، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان، لا يأتون بسورة من مثله، كما أخبر قبل ذلك، وأمره أن يقول في سورة (سبحان)، وهي سورة مكية، افتتحها بذكر الإسراء، وهو كان بمكة بنص القرآن والخبر المتواتر، وذكر فيها من مخاطبته للكفار بمكة ما يبين بذلك بقوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88] .
فعم بالخبر جميع الخلق، معَجِّزا لهم، قاطعا بأنهم إذا اجتمعوا كلهم، لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي والدعاء: هو لجميع الخلق، وهذا قد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم – مع ذلك – أنهم لم يعارضوه، ولا أتوا بسورة مثله، ومن حين بعث، وإلى اليوم، الأمر على ذلك، مع ما علم من أن الخلق كلهم كانوا كفارا قبل أن يبعث، ولما بعث إنما تبعه قليل.
وكان الكفار من أحرص الناس على إبطال قوله، مجتهدين بكل طريق يمكن، تارة يذهبون إلى أهل الكتاب فيسألونهم عن أمور من الغيب، حتى يسألوه عنها، كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين كما تقدم. وتارة يجتمعون في مجمع بعد مجمع على ما يقولونه فيه، وصاروا يضربون له الأمثال، فيشبهونه بمن ليس مثله لمجرد شبه، ما مع ظهور الفرق؛ فتارة يقولون: مجنون، وتارة يقولون: ساحر، وتارة يقولون: كاهن، وتارة يقولون: شاعر، إلى أمثال ذلك من الأقوال التي يعلمون – هم وكل عاقل سمعها – أنها افتراء عليه.
فإذا كان قد تحدَّاهم بالمعارضة – مرة بعد مرة – وهي تبطل دعوته، فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها، فإنه مع وجود هذا الداعي التام المؤكد، إذا كانت القدرة حاصلة؛ وجب وجود المقدور، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض.
فهذا القدر يوجب علما بيناً لكل أحد: بعجز جميع أهل الأرض، عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن بحيلة، وبغير حيلة” انتهى من “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” (5/ 425).
وما ذكرناه من أن القدر المعجز المتحدّى به هو سورة، هو قول الجمهور، وهو ظاهر القرآن.
قال السيوطي رحمه الله في “الإتقان” (4/ 20): “اختُلف في قدر المعجز من القرآن، فذهب بعض المعتزلة إلى أنه متعلق بجميع القرآن. والآيتان السابقتان تردّه.
وقال القاضي [الباقلاني]: يتعلق الإعجاز بسورة، طويلة كانت أو قصيرة، تشبثا بظاهر قوله: {بسورة}.
وقال في موضع آخر: يتعلق بسورة، أو قدرها من الكلام، بحيث يتبين فيه تفاضل قُوى البلاغة.
قال: فإذا كانت آية بقدر حروف سورة، وإن كانت كسورة الكوثر: فذلك معجز.
قال: ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقلَّ من هذا القدر.
وقال قوم: لا يحصل الإعجاز بآية، بل يشترط الآيات الكثيرة.
وقال آخرون: يتعلق بقليل القرآن وكثيره؛ لقوله: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}.
قال القاضي: ولا دلالة في الآية؛ لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة” انتهى.
والمعتمد هو قول الجمهور، وأن التحدي يكون بسورة، ولو قصيرة، لا بآية.
ثانيا:
لم يأت عمر رضي الله عنه بمثل سورة من القرآن، لو قصيرة، حتى يقال: إن هذا يعارض الإعجاز، وإنما أتى ببعض آية وافق فيه القرآن، وكان ذلك إلهاماً له من الله تعالى، لا من نفسه.
وجاء عنه أنه وافق القرآن في آية كاملة، لكن ذلك لا يصح إسنادا.
وهو ما رواه الطبري في “التفسير” (2 / 302)، وابن أبي حاتم في “التفسير” (1 / 182): عَنْ أَبي جَعْفَرٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: ( أَنَّ يَهُودِيًّا لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي يَذْكُرُ صَاحِبُكُمْ عَدُوٌّ لَنَا. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ عَلَى لِسَانِ عمر ابن الْخَطَّابِ ).
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن مداره على أبي جعفر عيسى بن ماهان، وهو موصوف بالوهم وسوء الحفظ.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: ” عيسى بن أبي عيسى ماهان أبو جعفر الرازي صدوق …
قال ابن المديني: ثقة وكان يخلط. وقال مرة: يكتب حديثه إلا أنه يخطئ. وقال أحمد: ليس بقوي. وقال مرة: صالح الحديث. وقال الفلاس: سيء الحفظ. وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير. وقال أبو زرعة: يهم كثيرا. وقال غيره: فيه شيء ” انتهى من “المغني في الضعفاء” (2 / 500).
ثم هو مرسل، فابن أبي ليلى لم يسمع من عمر رضي الله عنه.
قال الخليلي رحمه الله تعالى: “أبو عيسى عبد الرّحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ يروي عن عمر بن الخطّاب، والحفّاظ لا يثبتون سماعه من عمر ” انتهى. “الإرشاد” (2 / 548).
وبالإرسال، وبالغرابة: حكم الحافظ ابن حجر على هذا الخبر، كما في “العجاب في بيان الأسباب” (1 / 296).
وقد ضعفه ابن عطية من جهة المعنى، كما في “المحرر الوجيز” (1 / 184).
وعلى فرض الصحة، فالتحدي إنما هو في الإتيان بسورة، على ما مر، لا بآية.
ثالثا:
قد ثبت أن الله تعالى أنزل عددا من الآيات موافقة لرأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )، وَآيَةُ الحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ)، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ) رواه البخاري (402).
وهذه موافقة لبعض آية.
وقد كان عمر رضي الله عنه في مكة قبل إسلامه يسمع هذا القرآن المعجز، ولم يدّع يوما أنه قادر على أن يأتي بمثله، بل تيقن بأن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى، وأن البشر لا يمكنهم أن يأتوا بمثله، فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدقه.
ثم بعد إسلامه، وقوة يقينه، وشدة اتباعه، تفضل الله عليه بالتحديث والإلهام، فموافقة القرآن لبعض رأيه، هو من فضل الله تعالى عليه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ ناسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ، فَإِنَّهُ عُمَرُ ) زَادَ زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ، يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ ) رواه البخاري (3689) ومسلم (2398) من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” قوله ( مُحَدَّثُونَ ) واختلف في تأويله؛ فقيل: مُلهم، قاله الأكثر، قالوا: المحدَّث: هو الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في رُوعِه شيءٌ، من قِبَل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيره به…
وقيل: مكلم؛ أي تُكلمه الملائكة بغير نبوة، وهذا ورد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا، ولفظه: ( قيل: يا رسول الله! وكيف يحدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه ) رويناه في “فوائد الجوهري”، وحكاه القابسي وآخرون، ويؤيده ماثبت في الرواية المعلقة. ويحتمل رده إلى المعنى الأول، أي تكلمه في نفسه، وإن لم يُر مكلَّما في الحقيقة، فيرجع إلى الإلهام ” انتهى من “فتح الباري” (7 / 50).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ ) رواه الترمذي (3682)، وقال: ” وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ “.
والحاصل: أن التحدي هو في الإتيان بسورة ولو قصيرة، وذلك لم يقع من عمر ولا غيره، ولا يكون إلى يوم القيامة.
والله أعلم.