الإمام حمزة رحمه الله في باب الوقف على الهمز له مثلا في كلمة (السماء) عند الوقف خمسة أوجه كما ذكره الشاطبي وغيره فهل كل هذه الأوجه قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وتواترت عنه ، أم أن هذه الأوجه اجتهاد من العلماء ، وإن كانت كل هذه الأوجه تواترت فلماذا يضعف العلماء بعض الأوجه دون بعض .
الحمد لله.
أولا:
لا يخفى أنّ قراءةَ الإمامِ حمزةَ بنِ حبيبٍ الزّيّات (80-156 هـ) إحدى القراءات المتواترة التي اتفق أهلُ العلم على اعتبارِها واعتمادِها وجوازِ التعبّدِ والتلاوة بها في الصلاة وغيرها .
قال ابنُ عطية الأندلسي رحمه الله في تفسيره "المحرر الوجيز" (1/48) : " ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة، وبها يُصَلَّى؛ لأنها ثبتت بالإجماع " انتهى .
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (1/46) : " وقد أجمع المسلمون في جميع الأمصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة -يعني السبعة- مما رووه ، ورأوه مِن القراءات ، وكتبوا في ذلك مصنفات ، فاستمر الإجماع على الصواب ، وحصل ما وعد الله به مِن حفظ الكتاب ، وعلى هذا الأئمةُ المتقدمون ، والفضلاءُ المحققون .. " انتهى .
وقال بدر الدين الزركشي رحمه الله في "البرهان في علوم القرآن" (1/322) : " وقد انعقد الإجماع على صحةِ قراءة هؤلاء الأئمة وأنّها سنةٌ متَّبَعةٌ ، ولا مجالَ للاجتهاد فيها " انتهى .
وقد كان الإمامُ حمزةُ رحمه الله في قراءته متّبعًا لا مبتدعًا ، سائرًا على ما تلقاه عن شيوخه الذين تلقوه عن صحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فقد نُقل عن حمزة رحمه الله أنه قال: " ما قرأتُ حرفاً إلا بأثر " معرفة القراء الكبار للذهبي (1/114).
وشهد له بذلك الإمام سفيان الثوري رحمه الله ، فقال : " ما قرأ حمزةُ حرفاً مِن كتابِ الله إلا بأثرٍ " غاية النهاية في طبقات القراء (1/263).
قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" تعليقًا على قول الثوري : " يكفى حمزةَ شهادةُ مثلِ الامام سفيان الثوري له " انتهى .
وقال الإمام علم الدين السخاوي (558-643 هـ) في كتابه "جمال القراء" (2/471) : " إنما اتخذه الناسُ إمامًا في القراءة لعلمِهم بصحة قراءته ، وأنها مأخوذةٌ عن أئمة القرآن الذي تحققوا بإقرائه ، وكانوا أئمةً يُقتدى بهم مِن التابعين وتابعي التابعين"، وقال في (2/474) : " وكان حمزةُ رحمه الله أجلَّ وأورعَ مِن أنْ يبتدع". انتهى
ثانيا:
ورد عن بعض المتقدمين ما يدل على كراهتهم لقراءة حمزة ، ولكن استقر الاتفاق على اعتبارها ، وعدم الالتفات إلى الطعن بها :
قال الذهبي رحمه الله في "ميزان الاعتدال" (1/605) : " قد انعقد الاجماعُ بأخرة على تلقّى قراءةِ حمزةَ بالقَبول ، والانكارِ على مَن تكلّم فيها ؛ فقد كان مِن بعضِ السلفِ في الصَّدرِ الأولِ فيها مقالٌ " انتهى .
وأيضًا فإنّ الإمام حمزة لم ينفرد بالقراءة بتخفيف الهمز وتغييره عند الوقف، بل هو مذهب معروف عن غيره مِن أئمة القراءة :
قال الحافظ ابن الجزري في كتابه "النشر في القراءات العشر" (1/430) : " وقد وافق حمزةَ على تسهيل الهمزة في الوقفِ : حُمران بنُ أَعين، وطلحةُ بنُ مُصرِّف، وجعفرُ بنُ محمد الصادق، وسليمانُ بنُ مِهران الأعمش في أحد وجهَيه ، وسلّام بنُ سليمان الطويل البصري ، وغيرُهم ، وعلى تسهيل المتطرِّفِ منه : هشامُ بنُ عمّار في أحدِ وجهيه ، وأبو سليمان عن قالون في المنصوب المنَوَّن .. " انتهى .
وقال في (1/429) : " والقصدُ أنّ تخفيفَ الهمزِ ليس بمنكَرٍ ولا غريبٍ ، فما أحدٌ مِن القراء إلا وقد ورد عنه تخفيف الهمز ، إمّا عمومًا وإمّا خصوصًا..
وقد أفرد له علماءُ العربية أنواعًا تخصُّه ، وقسموا تخفيفَه إلى واجبٍ وجائزٍ ، وكلُّ ذلك أو غالبُه وردت به القراءة، وصحت به الرواية ؛ إذ مِن المحال أنْ يصحّ في القراءة ما لا يسوغ في العربية، بل قد يسوغ في العربية ما لا يصح في القراءة ؛ لأنّ القراءةَ سنةٌ متبعةٌ يأخذها الآخِرُ عن الأول.
ومما صح في القراءة، وساغ في العربية: الوقفُ بتخفيف الهمز وإن كان يُحقَّقُ في الوصل ؛ لأنّ الوقفَ محلُّ استراحة القارئ والمتكلم ؛ ولذلك حُذفت فيه الحركاتُ والتنوين، وأُبدل فيه تنوينُ المنصوبات، وجاز فيه الرَّومُ والإشمام والنقل والتضعيف ، فكان تخفيفُ الهمز في هذه الحالة أحقَّ وأحرى " انتهى .
وأمّا وجه اختصاص حمزة بتخفيف الهمزة، دون بقية القراء العشرة: فبيّنه ابن الجزري بقولِه في "النشر" (1/430) : " وقد اختص حمزةُ بذلك؛ مِن حيث إنّ قراءتَه اشتملت على شدّةِ التحقيق، والترتيل، والمدِّ، والسكت ؛ فناسب التسهيلَ في الوقف .
ولذلك روينا عنه الوقفَ بتحقيق الهمزِ، إذا قرأ بالحدرِ ، كما سنذكره إن شاء الله.
هذا كلُّه مع صحةِ الروايةِ بذلك عندَه ، وثبوت النقلِ به لديه؛ فقد قال فيه سفيان الثوري: ما قرأ حمزةُ حرفًا مِن كتاب الله إلا بأثر " انتهى .
ثالثا:
مّما ينبغي أنْ يُعلم: أنّ أصلَ تغييرِ الهمزِ متواترٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام :
قال الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (1/320) : " أمّا تخفيف الهمزة -وهو الذي يُطلَقُ عليه تخفيفٌ وتليينٌ وتسهيلٌ، أسماءٌ مترادفة- فإنه يشمل أربعةَ أنواع مِن التخفيف، وكلٌّ منها متواترٌ بلا شك " انتهى .
وقال ابنُ الجزري في "منجد المقرئين" (ص: 74) : "وأمّا تخفيفُ الهمز، ونحوه مِن النقل والإدغام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات: فمتواترٌ قطعًا ، معلومٌ أنّه منزلٌ مِن الأحرفِ السبعة ، ومِن لغات العربِ الذين لا يحسنون غيرَه " انتهى .
وأمّا الأوجه الكثيرة في تخفيف الهمز التي يجيزها حمزةُ عند الوقف: فلم تتواتر جميعُها عن النبي عليه الصلاة والسلام في كلّ موضعٍ ، فهي مِن قبيل الاجتهاد الجائز في صفة الأداء:
قال ابنُ الجزري في "منجد المقرئين" (ص: 75): " إذا ثبت أنّ شيئًا مِن القراءات مِن قبيل الأداء، لم يكن متواترًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتقسيم وقف حمزة وهشام، وأنواع تسهيله ؛ فإنه وإن تواتر تخفيفُ الهمزِ في الوقفِ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يتواتر أنه وقف على موضعٍ خمسين وجهًا ، ولا بعشرين ، ولا بنحو ذلك ، وإنما إنْ صحّ شيءٌ منها: فوجهٌ ، والباقي لا شك أنه مِن قبيل الأداء " انتهى .
ولا يعني ذلك أنّ الإمامَ حمزةَ اخترع وجوهًا مِن التخفيف في الهمز عند الوقف لم ترد بها القراءة والرواية، لمجرد جواز ذلك في اللغة ؛ للاتفاق على أنّ القراءة سنّة متّبعة ، كما ورد ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، فيما رواه أبو عُبيد القاسم بن سلّام في "فضائل القرآن" (ص: 361) ، وإنّما المرادُ أنّ هذه الأوجهَ منقولةٌ في الجملة ، ثابتة في عموم القرآن .
وأمّا أن يكون جميعُها منقولًا في كلِّ موضعٍ، أو متواترًا في كلِّ كلمةٍ: فلا ، لا سيما أنّ كثيرًا مِن هذه الكلمات ليست موضعًا للوقف الاختياري أصلًا ، وإنما قد يقف عليها القارئُ اضطرارًا ؛ لانقطاع نَفَسِه مثلًا ، أو اختبارًا بأنْ يُوقفه عليه المعلّمُ ، لينظر مدى معرفتِه بكيفية الوقوف الصحيح عليها ، أو انتظارًا فيقف على الكلمة ليعطِف عليها غيرَها عند جمع القراءات ، فلا يتأتّى أنْ يُنقل عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام فيه وقفٌ ، آحادًا أو تواترًا ، فضلًا عن أن يُنقل عنه هل حقّق الهمزَ أو غَيَّرَه في هذا الموضع بخصوصه، فضلًا عن نقل تعدّد الأوجه الجائزة في تغيير الهمز.
رابعا:
هنا تنبيه مهمٌّ جدًّا، بيّنه أهلُ القراءةِ: وهو وجوبُ التفريقِ بين أوجه الرواية الواردة في موضع واحدٍ، ومَن لم يأتِ ببعضِها يكون قد أخلّ ببعضِ وجوهِ القراءة التي يَقرأ بها، وبين أوجه التخيير التي يأتي بها القارئ على سبيل الجواز، بحيث لا يكون بتركِه بعضَها قد أخلّ بالرواية .
وأوجهُ وقفِ حمزةَ على الهمز مِن النوع الثاني ، لا الأول:
قال ابن الجزري في "النشر" (1/268) مبيِّنًا الفرق بين النوعين : " إنّ هذه الأوجهَ ونحوَها الواردة على سبيل التخيير: إنما المقصودُ بها معرفةُ جوازِ القراءةِ بكلٍّ منها على وجه الإباحةِ ، لا على وجهِ ذِكر الخُلفِ – أي: لا على وجهِ استيعاب الخلاف المروي في الآية – فبأي وجهٍ قُرئ منها: جاز ، ولا احتياج إلى الجمعِ بينها في موضعٍ واحدٍ، إذا قُصد استيعابُ الأوجهِ حالةَ الجمع والإفراد . وكذلك سبيلُ ما جرى مجرى ذلك ، مِن الوقف بالسكون وبالروم والإشمام ، وكالأوجه الثلاثة في التقاء الساكنين وقفًا، إذا كان أحدُهما حرفَ مدٍّ أو لِينٍ .
وكذلك كان بعضُ المحقِّقين لا يأخذ منها إلا بالأصحِّ الأقوى ، ويجعل الباقي مأذونًا فيه ، وبعضٌ لا يلتزم شيئًا ، بل يترك القارئَ يقرأ ما شاء منها ؛ إذ كلُّ ذلك جائزٌ مأذونٌ فيه منصوصٌ عليه ، وكان بعضُ مشايخِنا يرى أنْ يُجمَعَ بين هذه الأوجهِ على وجهٍ آخر، فيقرأ بواحدٍ منها في موضعِ ، وبآخرَ في غيرِه ؛ ليجمع الجميعَ المشافهةُ ، وبعضُ أصحابنا يرى الجمعَ بينها وبين أوّلِ موضعٍ وردتْ ، أو في موضعٍ ما على وجهِ الإعلام والتعليم وشمول الرواية .
أما مَن يأخذ بجميعِ ذلك في كلِّ موضعٍ فلا يعتمده إلا متكلِّفٌ غيرُ عارف بحقيقة أوجهِ الخلاف، وإنما ساغ الجمعُ بين الأوجهِ في نحو التسهيل في وقفِ حمزةَ ؛ لتدريب القارئ المبتدئ ورياضتِه على الأوجه الغريبةِ ؛ ليجريَ لسانُه ، ويعتادَ التلفظَ بها بلا كُلفةٍ ، فيكون على سبيل التعليم ؛ فلذلك لا يُكلَّفُ العارفُ بجمعِها في كلِّ موضعٍ ، بل هو بحسب ما تقدم " .
خامسا:
وبالنسبة للشِّق الثاني مِن السؤال، المتعلق بتضعيف بعض العلماء لبعض الأوجه: فذلك لا ينفي تواترَها في الجملة، وصحّةَ نقلِها ؛ فوقوعُ الخلاف في بعضِ الحروفِ، لا يعارض ثبوتَها وتواترَها في نفْس الأمرِ ، وقد ورد انتقادٌ مِن بعضِ علماءِ العربيةِ لبعضِ الحروفِ أو الكلماتِ الثابتةِ في القراءات المتواترة ، ولم يمنع ذلك مِن قَبولِها وإثباتِ تواترِها، والرد على مَن طعن فيها ببيانِ جوازِها لغةً ، وصحةِ نقلِها قرآنًا كما وقع لبعضهم مِن إنكار قراءة حمزة { والأرحامِ } النساء/1 بالخفض :
قال ابن الجزري في "منجد المقرئين" (ص: 77) : " ولله درُّ الإمام أبي نصرٍ الشيرازي حيث حكى في تفسيره عند قوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } النساء/1 كلامَ الزّجّاجي في تضعيف قراءة الخفض، ثم قال: ومثلُ هذا الكلامِ مردودٌ عند أئمة الدينِ ؛ لأنّ القراءات التي قرأ بها أئمةُ القُرّاء: ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ردّ ذلك فقد ردَّ على النبي صلى الله عليه وسلم ، واستقبح ما قرأ به ، وهذا مقام محظورٌ لا يُقَلَّدُ فيه أئمةُ اللغةِ والنحوِ ، ولعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح ، وإن كان أفصحُ منه ؛ فإنا لا ندّعي أنّ كلَّ ما في القراءات على أرفعِ الدرجات من الفصاحة " انتهى .
والناس يتفاوتون فيما يبلغهم مِن العلم ، فقد يتواتر عند شخصٍ ما لم يتواتر عند غيره :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المنطقيين" (ص: 14) : "وهي عند مَن علمها بالتواتر مِن المتواترات ، وقد يكون بعضُ الناس إنما علِمها بخبرٍ ظنّيٍّ فتكون عنده من باب الظنيات ، فان لم يسمعْها فهي عنده مِن المجهولات " انتهى .
وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (10/171) في الرد على بعضِ المتأخرين الذين نفوا بعضَ القراءات : " حتى نشأ طائفةٌ متأخرون لم يألَفُوها ، ولا عرفوها، فأنكروها – ومَن جهل شيئًا عاداه – قالوا: لم تتصل بنا متواترة ؟
قلنا: اتصلتْ بخَلقٍ كثيرٍ متواترةً ، وليس مِن شرط التواترِ أنْ يصلَ إلى الأمّةِ ، فعند القُرّاء أشياءُ متواترةٌ دون غيرهم، وعند الفقهاء مسائل متواترة عن أئمتهم لا يدريها القراءُ ، وعند المحدثين أحاديثُ متواترةٌ قد لا يكون سمعها الفقهاء ، أو أفادتهم ظنا فقط، وعند النحاةِ مسائلُ قطعيةٌ ، وكذلك اللغويون ، وليس مَن جهل علمًا ، حجةً على مَن علِمه " انتهى .
وبهذا يتبين أنّ القراءةَ سنةٌ متبعةٌ ، وأنّ القراءَ لا يقرؤون إلا بأثرٍ ونقلٍ عمّن سبقهم ، وأنّ تعددَ الأوجهِ في بعضِ الآيات أو تضعيفَ بعض أهل العلم لبعض الأوجه أو تقديم بعضها على بعض لا ينافي قرآنيتَها .
والله أعلم .