الحمد لله.
ليس بعد الكفر ذنب ، والذي يبلغ به تفكيره أن يجعل مثل هذه الأحاديث الشريفة الصحيحة مثارا للتشكيك والاستهزاء فقد أضحك الناس على عقله ، والملحد يستهزئ بكل شيء ، بالله ورسوله وملائكته وكتبه واليوم الآخر ، فليس من الصواب مناقشته في تفاصيل العقيدة ، وهو لم يؤمن بعد بأصولها الكبيرة .
ولو رحنا نتتبع كل من يسخر من الآيات أو الأحاديث لضاق بنا وبكم العمر الطويل ، ولما انتهينا من أصوات الحاقدين الناعقين بكل سوء وجهالة .
أما أولئك المنتسبون إلى الإسلام ، الذين يتنكرون لتراث الأمة وتاريخها وثقافتها وقيمها ، ويتسترون وراء ألقاب " العقلانية " ، و " التنويرية " فوالله لا نراهم إلا منادين على أنفسهم بالجهل والعمى ، ومسلمين عقولَهم التي يتفاخرون بها لبعض المستشرقين الحاقدين ، فيكررون على ألسنتهم كل سوء وبذاءة فاهت بها ألسنتهم ، وهم واقعون تحت تخدير وهم "العقلانية" ، حتى أصبح كل جاهل يريد أن يروج لبضاعته ينتسب إلى هذا الاسم ، وهو أبعد ما يكون عن العقل الصحيح .
وحاصل ما جاء في هذا السؤال من طعون تجتمع في مسائل ثلاثة :
الأولى : الطعن في الأحاديث الكثيرة التي جاءت بذكر تفاصيل ما يحصل للناس في المحشر ، وعند الصراط ، وفي عرصات – أي : ساحات - يوم القيامة .
ونحن نشير إلى الجواب المجمل أيضا عنها بالنقاط الآتية :
1- هذه الأحاديث كلها تتحدث عن عالم غيبي ، لا ندرك كنهه ولا حقيقته إلا رموزا يسيرة بينتها لنا الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الصحيحة ، ومن استهزأ بها فلم يبعد أن يستهزئ أيضا بما جاء في القرآن الكريم من ذكر تفاصيل يوم القيامة ، كيف تُطوى السماوات ، وتسير الجبال سيرا ، وتكون كالعهن المنفوش ، وبما جاء في القرآن الكريم من ذكر مجيئ الرب تعالى للحساب والفصل بين الناس ، وسؤاله لهم عن كل صغير وكبير ، إلى غير ذلك الكثير الكثير مما لو استهزأ بشيء منه لظهر كفره للقاصي والداني ، وبان إلحاده ، ولكان لنا وله شأن آخر في المناظرة والمناقشة .
أما أن يعمد إلى أحاديث صحيحة ، رواها العشرات من الثقات والحفاظ ، وتناقلها العلماء والأئمة بالإقرار ، ثم يستهزئ بما جاء فيها ، بدعوى أنه اكتشف بعقله الفذ !! نقدا لم يكتشفه أحد قبله ، فهذا تدليس على الناس وأعظم تدليس ، وإلا فليخبرنا عن الرب سبحانه وتعالى ، كيف هو على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم ، وكيف هو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، فإن أجاب بالتسليم لعجز العقل القاصر عن الخوض في الغيبيات ، قلنا له : وليسلم عقلك القاصر عن التفاصيل التي جاءت في السنة النبوية الصحيحة عن أحوال الآخرة ، وإلا كنت متناقضا .
2- ثم ما هو الشيء الذي يحيله العقل وتذكره هذه الأحاديث ، فما الذي يمنع من رؤية المؤمنين لله سبحانه وتعالى ، وما الذي يحيل أن يكشف لهم عن شيء من صفاته التي تليق بجلاله ، كما أنه سبحانه بذاته وجلاله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
وأين مثار السخرية في مرور الناس بالصراط ، وتجاوزهم على قدر أعمالهم ، أو في خروج العصاة من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فليخبرنا من يدعي أن ذلك كله مستحيل ما وجه استحالة ذلك في منطق العقل السليم ، وليبين لنا ذلك بحجته الباهرة !! وليس بالكلام البذيء ولا بالاستهزاء بعقول القراء الكرام .
الشبهة الثانية : الاستهزاء بأحاديث جواز نكاح المتعة في بداية الإسلام .
ونحن نحب أن نبين لهذا المستهزئ الجاهل أن نكاح المتعة في بداية الإسلام كان نكاحا قائما على شروط وأركان ، ولم يكن عبثا ولا فسادا مستترا ، فقد كان بموافقة الولي ، وحضور الشهود ، والإعلان ، ووجود المهر ، والرضا من كلا الطرفين ، وتبنى عليه أحكام الزواج الحقيقي جميعها : من نسب ، وميراث ، ومحرمية ، وطلاق ، وعدة ، ونحوها ، تماما كأي نكاح شرعي يتم اليوم في عرف الناس وشرعهم .
يقول الإمام القرطبي رحمه الله :
" من قال : المتعة أن يقول لها : أتزوجك يوماً - أو ما شابه ذلك - على أنه لا عدة عليك ، ولا ميراث بيننا ، ولا طلاق ، ولا شاهد يشهد على ذلك ؟! هذا هو الزنا بعينه ، ولم يُبَح قط في الإسلام " انتهى.
"الجامع لأحكام القرآن" (5/87)
غير أن الفارق الوحيد بينهما هو التأقيت والتحديد الزمني ، ليكون كل من الزوجين بعد هذه المدة بالخيار ، إن أحبا أن ينفصلا أو يستمر زواجهما إلى ما شاء الله ، وقد كان لجوازه في بداية الإسلام ظرف خاص ، تعددت الروايات في شرحه وبيانه ، وأقوى ما جاء فيه ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله : " فهذه أخبار يقوي بعضها ببعض ، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر " انتهى. "فتح الباري" (9/172)
وعلى كل حال فقد نسخ هذا النوع من النكاح ، ومنعته الشريعة بعد تجاوز الظرف الخاص الذي جاز فيه ، وصحت الكثير من الأحاديث في تحريمه ، واتفق على المنع منه الأئمة الأربعة والعلماء جميعهم . بل في نفس الحديث الذي ذكره المعتر ض ، نص الإمام البخاري في روايته (5119) على نسخ هذا النكاح :
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَا : كُنَّا فِي جَيْشٍ فَأَتَانَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا ) ...
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ [ هو الإمام البخاري ] : وَبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ .
وانظر : فتح الباري ، للحافظ ابن حجر ، رحمه الله .
3- حديث المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها. ونحن نتساءل عن الضير في ذلك ، هل من العيب أو الخزي أو من مثارات السخرية أن تسأل إحدى النساء الصالحات المؤمنات العفيفات النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ، فتنال مرتبةً عظيمةً في الدين في صحبة سيد المرسلين ، وتكون مع خير الخلق زوجةً في الدنيا والآخرة ، هل تُلام المرأة إن أبدت رغبتها في الزواج الشرعي من خير الخلق وسيد الأولين والآخرين ، أليس من حقها أن تبحث عما يسعد حالها ويرفع شأنها في الدنيا والآخرة ، أين هو المحرم أو الممنوع الذي وقعت فيه تلك المرأة الصالحة ، أم هو الطعن والاستهزاء لأجل التشويش والفتنة .
أما إيماننا بما في صحيحي البخاري ومسلم فليس من قبيل التقليد الأعمى ، أو التسليم الاعتباطي، بل هو إيمان مبني على دراسات استقرائية محكمة لجميع رواة وأسانيد ومتون هذين الصحيحين ، استغرقت آلاف الصفحات ومئات السنين وعشرات العلماء ، منها القديم والمعاصر ، كلها تثبت - بما لا يدع مجالا للشك – صحة الإجماع الواقع تلقي الكتابين بالقبول ، وترجيحهما على ما سواهما ، ومن أوائل هذه الدراسات مقدمة ابن حجر لكتابه فتح الباري، المسماة " هدي الساري " ، فقد تكلم فيها بتطويل عن الأسس والأركان التي قام عليها صحيح البخاري ، والتي اقتضت التسليم له بالصحة والثبوت .
هذا جواب مجمل مختصر ، وأما الجواب المطول المفصل فيقتضي أن نعرف هوية المسيء بهذه الكلمات ، كي يكون جوابنا مناسبا لحاله واعتقاده ، وإن كنا لا ننصح إخواننا المسلمين بالاشتغال بالرد على هؤلاء المتنطعين من المتكلمين ، حفظا لأوقاتهم وأعمارهم ، ولكن إذا اقتضى الأمر ضرورة المناقشة والمجادلة ، فبالدليل والبرهان ، وليس بالتهويش والتهويل .
والله أعلم .
تعليق