السبت 8 جمادى الأولى 1446 - 9 نوفمبر 2024
العربية

الصلاة خلف الصف منفرداً

السؤال

إذا دخل المصلي إلى المسجد ، فوجد الجماعة يصلون ، وليس له مكان في الصف ، فهل يصلي وحده خلفهم ، أو يجذب معه أحد المصلين من الصف الذي أمامه ؟.

الجواب

الحمد لله.

المشهور من مذهب الإمام أحمد ، واختيار غير واحد من المحققين: أنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف .

وقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى عن هذه المسألة ، فأجاب عنها جوابا مفصلا ، قال فيه :

( : الكلام على هذه المسألة في مقامين :

المقام الأول : هل تصح صلاة المنفرد خلف الصف أو لا ؟

والمقام الثاني : إذا قلنا لا تصح ، فوجد الصف تاما ، فماذا يصنع ؟

فأما المقام الأول : فقد اختلف العلماء – رحمهم الله – فيه :

فقال بعضهم : تصح صلاة المنفرد خلف الصف ، لعذر ولغير عذر , لكن صرح بعضهم بكراهة ذلك لغير عذر , وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة : مالك والشافعي وأبي حنيفة .

واستدلوا بصحة صلاة المرأة خلف الصف ؛ حيث قالوا : إن الرجال والنساء سواء في الأحكام الشرعية .

وبأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أبا بكرة حين ركع قبل أن يدخل الصف أن يعيد الصلاة [ حديث أبي بكرة : رواه البخاري 783 ] .

وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس من ورائه في أثناء الصلاة [ رواه البخاري 117 ومسلم 763 ] ؛ فإذا جاز أن يكون الانفراد في جزء من الصلاة ، جاز أن يكون في جميعها ؛ إذ لو كان مبطلاً للصلاة لم يكن بين قليله وكثيره فرق ، كالوقوف قدام الإمام .

وأجابوا عن الأحاديث النافية لصلاة المنفرد خلف الصف بأن المراد بها نفي الكمال ؛ فهي كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة بحضرة طعام ) [ مسلم 560 ] ونحوه .

وقال بعض العلماء : إن صلاة المنفرد خلف الصف لا تصح ، وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عند أصحابه ، وهو من مفرداته . وعنه رواية ثانية تصح وفاقاً للأئمة الثلاثة .

واستدل أصحاب هذا القول بالأثر والنظر :

أما الأثر : فما رواه الإمام أحمد ( 15862 ) عن علي بن شيبان – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف ، فلما انصرف قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( استقبل صلاتك,فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ، وهو حديث حسن ، له شواهد تقتضي صحته.

وأما النظر : فإن الجماعة هي الاجتماع , ويكون بالمكان والأفعال ؛ فالأفعال اجتماع المأمومين على متابعة إمامهم , والمكان اجتماعهم في صفوفهم ؛ وإذا قلنا بجواز انفراد بعضهم عن بعض ، فمتى تكون الهيئة الاجتماعية ...

وأجاب هؤلاء عن أدلة المجيزين بأن جواز انفراد المرأة خلف الصفوف من الرجال ، قد دلت السنة على أنه من خصائصها ؛ كما في حديث أنس قال : ( فقمت أنا واليتيم وراءه – يعني وراء النبي صلى الله عليه وسلم - والعجوز من ورائنا ) [ رواه البخاري 234 ومسلم 658 ] , ولأنها ليست أهلاً لأن تكون إلى جانب الرجال.

وأما حديث أبي بكرة فإنه لم ينفرد إلا جزءاً يسيراً وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تعد ) .

وأما حديث ابن عباس فإنه لم يقف خلف الصف ، بل كان ماراً غير مستقر .

وأما قولهم : إن المراد بنفي الصلاة نفي الكمال , فدعوى مردودة ؛ لأن الأصل في النفي نفي الوجود , فإن لم يمكن فنفي الصحة , فإن لم يمكن فنفي الكمال ؛ وحديث : ( لا صلاة لمنفرد ) يمكن أن يعود النفي فيه إلى نفي الصحة , فيجب أن يحمل عليه .

وأما تنظيرهم بحديث : ( لا صلاة بحضرة طعام ) فلا يصح لوجهين :

أحدهما:أن العلة في هذا هو انشغال القلب بحضور الطعام , وانشغال القلب لا يوجب بطلان الصلاة ، كما في حديث الوسوسة أن الشيطان يأتي إلى المصلي : اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ؛ فيظل لا يدري كم صلى [ رواه البخاري 608 ومسلم 389 ] .

الوجه الثاني : أن حديث : ( لا صلاة لمنفرد خلف الصف ) قد صرح أن المراد به نفي الصحة ؛ حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل صلاته ، وعلل ذلك بأنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف .

وفي حديث وابصة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده ، فأمره أن يعيد صلاته [ رواه أبو داود 682 والترمذي 230 ] .

وبهذا تبين أن القول الراجح وجوب المصافة , وأن من صلى وحده خلف الصف فصلاته باطلة , وعليه أن يعيدها لتركه واجب المصافة .

ولكن هذا الواجب كغيره من الواجبات ؛ يسقط بفوات محله , أو بالعجز عنه عجزاً شرعياً , أو عجزا حسياً لقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم ) التغابن/16 .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) [ رواه البخاري 7288 ومسلم 1337 ] ، فيجب أن يكون في الصف حيث وجد مكاناً فيه , فإن لم يجد مكاناً سقط عنه هذا الواجب , وكذلك إن لم يكن له مكان شرعاً فإنه يسقط عنه الواجب .

مثال الأول : إذا وجد الصف تاماً ، فله أن يصلي وحده ؛ لأنه لا واجب مع العجز .

ومثال الثاني : إذا كانت امرأة مع رجال فإنها تصلي وحدها خلف الصف ، كما ثبتت به السنة . وهذا الذي جاءت به السنة يمكن أن يكون أصلاً يقاس عليه صلاة الرجل وحده خلف الصف إذا لم يجد مكاناً فيه ؛ لأن التعذر الحسي كالتعذر الشرعي .

ويوضح ذلك : أن الرجل إذا جاء ووجد الصف تاماً فإما أن يتقدم ويقف بجنب الإمام , أو يجذب واحداً من الصف ليقف معه , أو يصلي وحده منفرداً عن الجماعة ، أو يصلي مع الجماعة خلف الصف .

فأما تقدمه إلى جنب الإمام ففيه :

1- مخالفة السنة بإفراد الإمام وحده ليتميز عن المأمومين بتقدمه عليهم مكاناً وأفعالاً . ولا يرد على هذا وقوف النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب أبي بكر [ رواه مسلم 413 ] ؛ لأن الذي جاء ووقف هو الإمام ، وقف إلى جانب نائبه .وأيضاً فإن أبا بكر لا يمكنه الرجوع إلى الصف . وأيضاً فإن من مصلحة الجماعة أن يكون إلى جنب النبي ليبلغهم تكبيره..

2- وفي تقدم المأموم الذي وجد الصف تاماً إلى جنب الإمام ، إيذاء للجماعة الذين سيتخطاهم ليصل إلى الإمام .

3- وفيه تفويت للمصافة لمن جاء بعده ؛ فإنه لو قام وحده وجاء آخر صار صفاً .

وأما جذبه واحداً من المأمومين ليقف معه ففيه ثلاثة محاذير :

أحدها : فتح فرجة في الصف , والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالمراصة ونهى أن ندع فرجات للشيطان [ أحمد 5691 وأبو داود 666 ، وصححه الألباني في الصحيحة ] .

الثاني : أنه ظلم للمجذوب بنقله من المكان الفاضل إلى المكان المفضول .

الثالث : أنه يشوش عليه صلاته , وربما ينازعه ويشاتمه إذا فرغ منها .

ولا يرد على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن رآه يصلي وحده خلف الصف :

( ألا دخلت معهم أو اجتررت أحداً ) فإنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة [ رواه الطبراني في الأوسط 8/374 وقال الهيثمي : ضعيف جدا ) .

وأما تركه الجماعة وصلاته منفرداً ، فهو ترك لواجب الجماعة مع القدرة عليه ، فيكون وقوعاً في المعصية .

وأما صلاته مع الجماعة خلف الصف فهو قيام بالواجب عليه بقدر المستطاع ؛ فإن المصلي مع الجماعة يلزمه أمران :

أحدهما : الصلاة في الجماعة .

والثاني : القيام في الصف معهم , فإذا تعذر أحدهما وجب الآخر .

فإن قيل : إن قوله صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة لمنفرد خلف الصف ) عام ليس فيه تفصيل بين تمام , وعدم تمامه .

فالجواب : أن هذا دال على بطلان الصلاة للمنفرد لتركه واجب المصافة ,فإذا لم يقدر عليه سقط عنه , والنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يبطل صلاته لتركه ما لا قدرة له عليه .

ونظير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ) [ رواه البخاري 756 ومسلم 394 ] , وقوله صلى الله عليه وسلم : (لا صلاة لمن لا وضوء له) [ رواه الإمام أحمد 9137 وأبو داود 101 وابن ماجة 399 ] إن صح هذا , فإن من لم يقدر على الفاتحة أو على الوضوء صلى بدونهما وأجزأته صلاته ، لكنه يقرأ من القرآن بقدر الفاتحة , أو يذكر الله إن لم يقدر على شيء من القرآن ، ويتيمم إن عجز عن الوضوء .

وخلاصة الجواب : أن المصافة واجبة , وأن من جاء وقد كمل الصف فإنه يصلي مع الجماعة خلف الصف , ولا يتقدم إلى الإمام ليصلي إلى جنبه , ولا بجذب أحداً من الصف ليقف معه , ولا يترك صلاة الجماعة .

وجواز صلاته الجماعة منفرداً عن الصف للعذر هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه , وشيخنا عبد الرحمن سعدي ، وبعض قول من يرى الجواز مطلقا ً.

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب