الحمد لله.
قال بعض السلف : " ما على وجه الأرض شيء أَحوج إلى طول حَبْس من اللسان " ! والحقيقة أنه محبوس في الفم ، داخل بوابة الأسنان ، وتطبق عليه بوابتان أخريان وهما الشفتان ! ومع ذلك فإنه ينطلق رغم تلك الحراسة الشديدة فيوقع صاحبه في الإثم ، وقد يوقعه في الكفر .
ومن نفائس الحكَم : " الكلام أسيرُك ، فإذا خرج من فيكَ : صرتَ أنت أسيره " .
وقد جاء التحذير من إطلاق اللسان فيما حرَّم الله تعالى من الولوغ في أعراض الناس ، وفي الغيبة ، والنميمة ، والسب ، والقول على الله بغير علم ، وعموم معاصي اللسان وآفاته .
قال تعالى : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ق/ 18 .
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ ) .رواه البخاري ( 6109 ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ) رواه البخاري ( 6113 ) .
وبخصوص الطعن في عرضكَ أخي السائل : اعلم أن الله تعالى يملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يُفلته ، وأنك تؤجر على صبرك وتحملك للأذى ، وأنهم يأثمون ، ويستحقون الحدَّ في الدنيا على قذفهم لك ، ويستحقون العذاب في الآخرة ، وهم من المفلسين الذين تؤخذ حسناتهم فتُعطى للمظلوم ، ويؤخذ من سيئاته فتُلقى عليهم ، إلا أن يتجاوز الله عنهم .
فما فعله أولئك من اتهامك بالفحشاء منكر من القول وزور ، وقد ارتكبوا آثاماً عظيمة ، ومن أبرزها : البهتان والقذف ، والغِيبة ، وكلها من كبائر الذنوب :
1. أما البهتان : فقد قال الله تعالى في التحذير منه : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) الأحزاب/ 58 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ) رواه مسلم ( 2598)
وفي " الموسوعة الفقهية " ( 21 / 270 ) :
البهتان في اللّغة : القذف بالباطل ، وافتراء الكذب ، وهو اسم مصدرٍ ، فعله : بهَتَ ، من باب نَفَع .
وفي الاصطلاح : أن يتكلّم خلف إنسانٍ مستورٍ بما ليس فيه .
انتهى
وفي ( 31 / 330 ، 331 ) :
البهتان في اللّغة : القذف بالباطل وافتراء الكذب .. ، وفي الاصطلاح : ذكرك أخاك بما ليس فيه .
والفرق بين الغيبة والبهتان هو : أنّ الغيبة : ذِكر الإنسان في غَيبته بما يكره ، والبهتان : وصفه بما ليس فيه ، سواء أكان ذلك في غيبته أم في وجوده .
انتهى
2. وأما القذف : فهو من كبائر الذنوب ، وفيه الحد ثمانون جلدة ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور/4-5.
قال ابن كثير - رحمه الله - :
فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام : أحدها : أن يُجلد ثمانين جلدة ، الثاني : أنه ترد شهادته أبداً ، الثالث : أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ، ولا عند الناس .
" تفسير ابن كثير " ( 3 / 292 ) .
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - :
وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء .
" فتح الباري " ( 12 / 188 ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ . رواه مسلم ( 2581 ) .
3. وأما الغيبة : فتحريمها بيِّن في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
لي صديق كثيراً ما يتحدث في أعراض الناس , وقد نصحته ولكن دون جدوى , ويبدو أنها أصبحت عادة عنده , وأحيانا يكون كلامه في الناس عن حسن نية ، فهل يجوز هجره ؟ .
فأجاب :
الكلام في أعراض المسلمين بما يكرهون : منكر عظيم , ومن الغِيبة المحرمة ، بل من كبائر الذنوب ؛ لقول الله سبحانه : ( وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) الحجرات / 12 ؛ ولما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أتدرون ما الغيبة ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم , فقال: ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : يا رسول الله إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فيه فقد بهَتَّه ) .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ( لما عرج به مر على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم , فقال : يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم ) أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه , وقال العلامة ابن مفلح : إسناده صحيح , قال : وخرَّج أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعا أن ( من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق ) .
والواجب عليك وعلى غيرك من المسلمين عدم مجالسة من يغتاب المسلمين مع نصيحته والإنكار عليه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم في صحيحه ، فإن لم يمتثل : فاترك مجالسته ؛ لأن ذلك من تمام الإنكار عليه ) .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 5 / 401 ، 402 ) .
والذي ننصحك به : هو احتساب هذه المصيبة عند الله ، والدفاع عن نفسك بتبرئتها أمام من سمعها ، وبيان كذب وافتراء أولئك الأفاكين ، ونظن أن ابتعادك عن مكان عملك وسكوتك عن بيان كذبهم قد يؤكد صحة كلامهم عند كثير من زملائك ، وإذا رغبت بالانتقال من مكان عملك بعد تبرئة نفسك وتبيين كذبهم فلك ذلك ، لكن لا تنتقل قبل ذلك ، وننصحك أيضاً بتثبيت اتهامهم لك أمام القضاء الشرعي ، والمطالبة بإقامة الحد عليهم .
سئل الشيخ عبد الله بن جبرين – حفظه الله - :
شخصان اغتاب أحدهما الآخر ، ليقع اللوم عليه ، ويبرئ نفسه أمام الآخرين ، لكن الشخص الثاني يخشى الله من آثام الغيبة ، فمثلاً زوجان تشاجرا ، واختلفا ، فذهبت الزوجة لأهلها واغتابت زوجها بما حصل منه ، وما فعله ، وذلك أمام أهلها ، ثم قام أهلها بدورهم يغتابون الرجل - زوج ابنتهم - أمام الآخرين ، وهكذا إلى أن يفضحوا الرجل ، سواء كان فيه هذا الشيء أو لم يكن فيه ، لكن الرجل زوج المرأة لما سمع عن زوجته ما حصل منها من الغيبة والظلم منها ومن أهلها أمام الناس وسماعهم : أراد أن يدافع عن نفسه بالمثل ، ويخبر الناس بما حصل منها ، لكن خشي الله من آثام الغيبة والظلم ، فهل يسكت ويسلم أمره إلى الله ، ولا يبالي بما حصل ؟ .
فأجاب :
لا شك أن الغيبة حرام ، وهي ذكرك أخاك بما يكره ، ولو كنت صادقاً فيما تقول ، أما إن كذبت عليه بما ليس فيه : فهذا من البهتان العظيم ، والظلم الكبير ، وإثمه أكبر من إثم الغيبة ، فعلى هذا يجوز للزوج أن يبرئ نفسه مما كذبوا عليه أمام الناس ، حتى يعلم الجمهور عدم صحة ما قيل فيه ، وتبرأ ساحته ، ويصون عرضه عن الكذب ؛ فإنه لو سكت : لصدَّق الناس ما نُسب إليه ، وظنوه حقّاً ، وانتشرت له سمعه سيئة ، كما أن على من علم ذلك نصح الزوجة وأهلها عن مجرد الغيبة والكذب والبهتان ، وعن إفشاء الأسرار بين الزوجين ، وبيان أن هذا من الظن ، والظن أكذب الحديث ، وهكذا يجب السعي في الإصلاح بينهما ، وجمع الكلمة ، وإزالة ما في القلوب من الشحناء والعداوة والبغضاء ، رجاء أن تصلح الحال ، وتعود الصحبة كما كانت .
" اللؤلؤ المكين من فتاوى الشيخ ابن جبرين " ( النكاح / السؤال 359 ) .
والله أعلم
تعليق