الحمد لله.
أولا :
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعد صلاة الكسوف ، فقد روى البخاري (1044) ومسلم (901) عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ وَقَدْ انْجَلَتْ الشَّمْسُ ، فَخَطَبَ النَّاسَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ ، وَكَبِّرُوا ، وَصَلُّوا ، وَتَصَدَّقُوا ، ثُمَّ قَالَ : يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) .
ولهذا ذهب جمهور السلف إلى استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف ، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحد القولين للإمام أحمد .
قال النووي رحمه الله في " المجموع " (5/59) عن القول باستحباب الخطبة بعد الصلاة : "وبه قال جمهور السلف ، ونقله ابن المنذر عن الجمهور" انتهى.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" تسن الخطبة بعد صلاة الكسوف ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك , وقد قال الله عز وجل: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من رغب عن سنتي فليس مني)، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين , وتفقيههم في الدين, وتحذيرهم من أسباب غضب الله وعقابه ، ويكفي أن يفعل ذلك وهو في المصلى بعد الفراغ من الصلاة " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (13/44) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف :
"وهو الصحيح ، وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما انتهى من صلاة الكسوف قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، ثم وعظ الناس .
وهذه الصفات صفات الخطبة . وقولهم : إن هذه موعظة ؛ لأنها عارضة . نقول : نعم ، لو وقع الكسوف في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة أخرى ولم يخطب لقلنا : إنها ليست بسنة ، لكنه لم يقع إلا مرة واحدة ، وجاء بعدها هذه الخطبة العظيمة التي خطبها وهو قائم ، وحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أما بعد ، ثم إن هذه المناسبة للخطبة مناسبة قوية من أجل تذكير الناس وترقيق قلوبهم ، وتنبيههم على هذا الحدث الجلل العظيم " انتهى.
" الشرح الممتع " (5/188) ، وانظر : "الإنصاف" (2/448) للمرداوي الحنبلي .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المستحب أن يخطب خطبتين يجلس بينهما جلسة يسيرة ، كما يفعل في خطبة الجمعة ، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله .
وانظر : "الأم" (1/280) .
وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب خطبة واحدة ، وهو ما اختاره بعض الحنابلة ، ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
انظر : "الإنصاف" (2/448) ، "الشرح الممتع" (5/188) .
وقد ذهب الإمامان أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه أنه لا يستحب الخطبة بعدها .
وأجابوا عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، بأنه صلى الله عليه وسلم خطب بعد الصلاة ليبين للصحابة بعض الأحكام المتعلقة بصلاة الكسوف .
وانظر : "المغني" (2/144) .
ومذهب المالكية : أنه يستحب الوعظ بعدها ولكن لا يكون على صفة الخطبة .
وانظر : "بلغة السالك لأقرب المسالك" (1/350) .
وقد أجاب ابن دقيق العيد رحمه الله على المذهبين فقال في شرح حديث عائشة السابق :
" ظاهر في الدلالة على أن لصلاة الكسوف خطبة ، ولم ير ذلك مالك ولا أبو حنيفة .
قال بعض أتباع مالك : ولا خطبة , ولكن يستقبلهم ويذكرهم .
وهذا خلاف الظاهر من الحديث , لا سيما بعد أن ثبت أنه ابتدأ بما تبتدأ به الخطبة من حمد الله والثناء عليه .
والذي ذُكر من العذر عن مخالفة هذا الظاهر : ضعيف , مثل قولهم : إن المقصود إنما كان الإخبار " أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله , لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته " للرد على من قال ذلك في موت إبراهيم . والإخبار بما رآه من الجنة والنار , وذلك يخصه .
وإنما استضعفناه لأن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة .
وقد يكون بعض هذه الأمور داخلا في مقاصدها , مثل ذكر الجنة والنار , وكونهما من آيات الله ، بل هو كذلك جزما " انتهى.
" إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام " (2/352) .
ثانيا :
أما طول الخطبة ، فالمستحب بوجه عام هو تقصير الخطبة ، بحيث تفي بالمقصود من وعظ الناس وتذكيرهم ، ولا تملهم أو ترهقهم ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ – أي علامة - مِنْ فِقْهِهِ ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ) رواه مسلم (869) .
والله أعلم .
تعليق