الحمد لله.
أولا :
ابن رشد اسم مشترك بين ابن رشد الحفيد ، وابن رشد الجد ، وكلاهما يُكنَى بأبي الوليد ، وكلاهما يحمل اسم : محمد بن أحمد ، كما أن كلا منهما تولى قضاء قرطبة .
والمقصود في السؤال هو ابن رشد الحفيد ، المتوفى سنة (595هـ)، المشهور باشتغاله وتأليفه في الفلسفة ، أما ابن رشد الجد فلم يشتغل بها ، وتوفي سنة (520هـ).
قال الأبار :
لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا ، وكان متواضعا ، منخفض الجناح ، يقال عنه : إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين : ليلة موت أبيه ، وليلة عرسه ، وإنه سود في ما ألف وقيد نحوا من عشرة آلاف ورقة ، ومال إلى علوم الحكماء ، فكانت له فيها الإمامة . وكان يُفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه ، مع وفور العربية ، وقيل : كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي .
ومن أشهر مصنفاته : ( بداية المجتهد ) في الفقه ، و ( الكليات ) في الطب ، و ( مختصر المستصفى ) في الأصول ، ومؤلفات أخرى كثيرة في الفلسفة ، اهتم فيها بتلخيص فكر فلاسفة اليونان ، فألف : كتاب ( جوامع كتب أرسطوطاليس ) ، وكتاب ( تلخيص الإلهيات ) لنيقولاوس ، كتاب ( تلخيص ما بعد الطبيعة ) لأرسطو ، ولخص له كتبا أخرى كثيرة يطول سردها ، حتى عرف بأنه ناشر فكر أرسطو وحامل رايته ، وذلك ما أدى به في نهاية المطاف إلى العزلة ، فقد هجره أهل عصره لما صدر منه من مقالات غريبة ، وعلوم دخيلة .
قال شيخ الشيوخ ابن حمويه :
لما دخلت البلاد ، سألت عن ابن رشد ، فقيل : إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب ، لا يدخل إليه أحد ، لأنه رفعت عنه أقوال ردية ، ونسبت إليه العلوم المهجورة ، ومات محبوسا بداره بمراكش .
يمكن مراجعة سيرته في " سير أعلام النبلاء " (21/307-310)
ثانيا :
قد طال الجدل حول حقيقة عقائد ابن رشد ، وكثرت المؤلفات ما بين مؤيد ومعارض ، واضطربت الأفهام في تحديد عقائده ومذاهبه .
ولضيق المقام ههنا عن الدراسة المفصلة لعقائد ابن رشد ، سنكتفي بذكر بعض المآخذ المجملة التي كانت مثار جدل في مؤلفاته :
1- تأويل الشريعة لتوافق الفلسفة الآرسطية :
لعل الاطلاع على ترجمة ابن رشد الموجزة السابقة كاف للدلالة على هذه التوجهات الفكرية لدى ابن رشد ، فقد أُخِذَ بفكر أرسطو ، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " هو من أتبع الناس لأقوال آرسطو " انتهى. " بيان تلبيس الجهمية " (1/120)، وحاول جاهدا شرحه وبيانه وتقريره للناس بأسلوب عربي جديد ، وهو - خلال ذلك - حين يرى مناقضة فكر أرسطو مع ثوابت الشريعة الإسلامية ، يحاول سلوك مسالك التأويل البعيدة التي تعود على الشريعة بالهدم والنقض ، وكأن فلسفة أرسطو قرين مقابل لشريعة رب العالمين المتمثلة في نصوص الكتاب والسنة ، ولذلك كتب كتابه المشهور : " فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ".
2- اعتقاده بالظاهر والباطن في الشريعة :
يقول ابن رشد :
" الشريعة قسمان : ظاهر ومؤول ، والظاهر منها هو فرض الجمهور ، والمؤول هو فرض العلماء ، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله ، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور ، كما قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " انتهى.
" الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/99) طبعة مركز دراسات الوحدة العربية.
وقد استغرق ابن رشد في تقرير هذه الفكرة الباطنية في كتبه ، حتى إنه جعل من أبرز سمات الفرقة الناجية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها هي " التي سلكت ظاهر الشرع ، ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس " انتهى. " الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/150).
ولذلك توسع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على خصوص كلام ابن رشد في هذا الكتاب ، وبيان بطلان التفسير الباطني لنصوص الشريعة ، وذلك في كتابيه العظيمين : " بيان تلبيس الجهمية " ، ودرء تعارض العقل والنقل .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية ؛ بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب : سلك مسلك التخييل ، وقال : إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم ؛ مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك . فهؤلاء يقولون : إن الرسل كذبوا للمصلحة . وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (19/157) .
3- مال في باب " البعث والجزاء "، إلى قول الفلاسفة أنه بعث روحاني فقط ، بل وقع هنا في ضلالة أعظم من مجرد اعتقاده مذهب الفلاسفة في البعث الروحاني ؛ حيث جعل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد ، وأن فرض كل ناظر فيها هو ما توصل إليه . قال :
" والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها " انتهى.
" الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/204)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام :
فمنهم من ظن أن ذلك من الملة .
ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره ، فجعلوا يردون من كلام المتكلمين ما لم يكن معهم فيه سمع ، وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين : إما أن يقروه باطنا وظاهرا إن وافق معقولهم ، وإلا ألحقوه بأمثاله ، وقالوا إن الرسل تكلمت به على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة ، وابن رشد ونحوه يسلكون هذه الطريقة ، ولهذا كان هؤلاء أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأمثاله ، وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام ، ويستحلون محرماته ، وإن كان في كل من هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة ، ولهم من الصواب والحكمة بحسب ما وافقوا فيه ذلك .
ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ، ومسوغا للقولين ، وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل ، وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت ردا أخطأ في كثير منه ، والصواب مع أبي حامد ، وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه ، وجعل الخطأ فيه من ابن سينا ، وبعضه استطال فيه على أبي حامد ، ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف لكونه بناه على أصول كلامية فاسدة ، مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة ، وكون القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام " انتهى.
" منهاج السنة " (1/255)
4- ولعل من أبرز سمات منهج ابن رشد في كتبه ، وفي الوقت نفسه من أبرز أسباب أخطائه هو عدم العناية بالسنة النبوية مصدرا من مصادر التشريع .
يقول الدكتور خالد كبير علال حفظه الله :
" ابن رشد لم يُعط للسنة النبوية مكانتها اللائقة بها كمصدر أساسي للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم ، ولم يتوسع في استخدامها في كتبه الكلامية والفلسفية ، ففاتته أحاديث كثيرة ذات علاقة مباشرة بكثير من المواضيع الفكرية التي تطرق إليها ، كما أن الأحاديث التي استخدمها في تلك المصنفات كثير منها لم يفهمه فهما صحيحا ، وأخضعه للتأويل التحريفي خدمة لفكره وأرسطيته " انتهى.
" نقد فكر الفيلسوف ابن رشد " (ص/97)
هذه بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن توضح بعض مآخذ العلماء على عقيدة ابن رشد الحفيد ، وهي في محصلها ترجع إلى إلغاء كثير من موازين الشريعة التي ضبط بها الشارع حدودها ، والدعوة إلى سلوك التأويل والاجتهاد في بعض مسلماتها ، انطلاقا من أفكار دخيلة جاءت من حضارات قديمة بائدة .
ولأجل ذلك احتفى به كثير من المحسوبين على التوجهات العلمانية والليبرالية المتحررة اليوم ، حتى نسبوا ريادة الفكر التنويري للفيلسوف ابن رشد ، وهم يعلمون أن كثيرا من العلوم الواردة في كتبه تعد من العلوم البائدة التي يجزم العلم الحديث بخطئها ، ولكن غرضهم تمجيد كل فكر متحرر من ثوابت الشريعة ، متحرر من حقائق نصوصها إلى المجازات والتأويلات ، وفي الوقت نفسه يلبس لبوس الدين والعلم والفقه ، فرأوا في ابن رشد ضالتهم ، وفي كتبه رائدا لهم ، وإن كنا نحسب أن في كتبه من إظهار التمسك بالشريعة والرجوع إليها ما لا نجده في كتب هؤلاء القوم ، وكان عنده من لزوم الجانب العملي في الشريعة ، وتعظيمها في الفقه والقضاء والفتيا ما لا يعجب القوم ، ولا يبلغون معشاره : قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ !!
والله أعلم .
تعليق