الحمد لله.
أولا :
ينبغي أن يُعلم أن أهم ما يعين على الفهم أمران اثنان :
1-اتخاذ الأسباب الحقيقية للفهم ، بالإنصات ، والتركيز ، والحفظ ، والتفكير ، والسؤال عما يشكل : وهذه أمور مهمة جدا ، قد يصعب تطبيقها في بادئ الأمر ، لكنها تصبح خير ما يعين على الفهم إذا تدرب عليها المتعلم واعتادها فأصبحت ملكة له .
2- صدق اللجوء إلى الله تعالى ، وسؤاله الفهم والتعليم ، فالعلم نور يقذفه الله في القلب ، فإذا كان القلب بعيدا عن الله لم يكن مستعدا لاستقبال هذا النور ، وأما القلب القريب من الله بالعبادة والمحبة والتوبة والاستغفار والإنابة : فهذا حري أن ينال الفتح من الله عز وجل .
وقد قرر ابن القيم في كتابه العظيم " إعلام الموقعين " مجموعة من الأمور التي تعين المفتي على الفهم وإدراك حقائق المسائل والنوازل ، يمكن الاستعانة بها لكل طالب علم ومريد حق .
قال رحمه الله :
" ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي - لا العلمي - المجرد إلى مُلهم الصواب ، ومُعلم الخير ، وهادي القلوب : أن يلهمه الصواب ، ويفتح له طريق السداد ، ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة ، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق ، وما أجدر من أمّل فضل ربه أن لا يحرمه إياه ، فإذا وجد من قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق ، فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ، ومعدن الصواب ، ومطلع الرشد ، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة ، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها ، فإن ظفر بذلك أخبر به ، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله ، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده ، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد ، ولا بد أن تضعفه .
وشهدت شيخ الإسلام قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها إلى التوبة ، والاستغفار ، والاستغاثة بالله ، واللجإ إليه ، واستنزال الصواب من عنده ، والاستفتاح من خزائن رحمته ، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا ، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ ، ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علما وحالا ، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطى حظه من التوفيق ، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق ، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " انتهى.
" إعلام الموقعين " (6/67-68) تحقيق مشهور حسن سلمان.
وقد نقل ابن عبد الهادي رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله :
" إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل .
قال : وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي " انتهى.
" العقود الدرية " (ص/6) .
ثانيا :
لم نقف على دعاء مخصوص مرفوع يسن لمن طلب الفهم أن يأتي به ، وإنما هي أذكار مأثورة عن بعض السلف ، أو تأول لبعض الأحاديث النبوية ، وعمل بما فيها من الأدعية الصالحة ، وإن لم يكن الدعاء مقيدا في السنة بهذه الحالة ، لكن تأوله وذكره في مثل هذا المقام هو اجتهاد ممن فعله من السلف .
فمن أتى بمثل هذه الأذكار والأدعية السلفية ، غير معتقد أنها ـ بخصوصها ، وبخصوص هذه الحال ـ من السنة ، أو أن لها فضيلة خاصة : فلا حرج عليه .
قال ابن القيم أيضا رحمه الله :
" حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، وكان شيخنا ـ يعني : شيخ الإسلام ابن تيمية ـ كثير الدعاء بذلك ، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول : يا معلم إبراهيم ! علمني . ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل رضى الله عنه .
وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .
وكان مكحول يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله .
وكان مالك يقول : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكان بعضهم يقول : رب اشرح لي صدري ، ويسِّر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .
وكان بعضهم يقول : اللهم وفقني ، واهدني ، وسددني ، واجمع لي بين الصواب والثواب ، واعذرني من الخطأ والحرمان .
وكان بعضهم يقرأ الفاتحة .
وجربنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة .
والمعوَّل في ذلك كله على حسن النية ، وخلوص القصد ، وصدق التوجه ...
وسئل الإمام أحمد فقيل له : ربما اشتد علينا الأمر من جهتك فمن نسأل بعدك ؟ فقال سلوا عبد الوهاب الوراق ، فإنه أهل أن يوفق للصواب .
واقتدى الإمام أحمد بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فإنهم تجلى لهم أمور صادقة .
وذلك لقرب قلوبهم من الله ، وكلما قرب القلب من الله زالت عنه معارضات السوء ، وكان نور كشفه للحق أتم وأقوى ، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعارضات ، وضعف نور كشفه للصواب ، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب ، يفرق به العبد بين الخطأ والصواب .
وقال مالك للشافعي رضي الله عنهما في أول ما لقيَه : إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية .
وقد قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ) ومن الفرقان النور الذي يفرق به العبد بين الحق والباطل ، وكلما كان قلبه أقرب إلى الله كان فرقانه أتم ، وبالله التوفيق " انتهى.
" إعلام الموقعين " (6/197-199)
والله أعلم .
تعليق