الحمد لله.
أولا :
لا حرج على المسلم في اختيار المسجد الأبعد لصلاة الجمعة فيه ، رغبة منه في الاستفادة من الخطيب الأفضل ، والبحث عن الموعظة المؤثرة ، والكلام المفيد ، إذ لا دليل يشير إلى المنع، والوسائل لها أحكام المقاصد ، فما دام المقصد حسنا وطيبا ، فالوسيلة : وهي الانتقال إلى المساجد الأخرى مشروعة أيضا .
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال الآتي :
ما حكم التنقل بين المساجد فكل ليلة في مسجد طلبا لحسن الصوت ؟
فأجاب :
لا أعلم في هذا بأسا ، وإن كنت أميل إلى أنه يلزم المسجد الذي يطمئن قلبه فيه ويخشع فيه ؛ لأنه قد يذهب إلى مسجد آخر لا يحصل له فيه ما حصل في الأول من الخشوع والطمأنينة ، فأنا أرجح حسب القواعد الشرعية أنه إذا وجد إماما يطمئن إليه ، ويخشع في صلاته وقراءته : يلزم ذلك ، أو يكثر من ذلك معه ، والأمر في ذلك واسع لا حرج فيه بحمد الله ، فلو انتقل إلى إمام آخر لا نعلم فيه بأسا ؛ إذا كان قصده الخير وليس قصده شيئا آخر من رياء أو غيره ، لكن الأقرب من حيث القواعد الشرعية أنه يلزم المسجد الذي فيه الخشوع والطمأنينة وحسن القراءة ، أو فيه تكثير المصلين بأسبابه إذا صلى فيه كثر المصلون بأسبابه يتأسون به ، أو لأنه يفيدهم وليس عندهم من يفيدهم ويذكرهم بعض الأحيان ، أو يلقي عليهم درسا ، بمعنى أن يحصل لهم بوجوده فائدة ، فإذا كان هكذا فكونه في هذا المسجد الذي فيه الفائدة منه أو من غيره ، أو كونه أقرب إلى خشوع قلبه والطمأنينة وتلذذه بالصلاة فيه ، فكل هذا مطلوب " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (11/329-330)
ثانيا :
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِهِ ، وَلا يَتَتَبَّعِ الْمَسَاجِدَ )
فالجواب عنه من أوجه عديدة :
الوجه الأول : جاء هذا الحديث من طرق عن ابن عمر رضي الله عنهما ، كلها ضعيفة لا تتقوى :
الطريق الأول : عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر :
رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (12/370) من طريق عبادة بن زياد الأسدي ، ثنا زهير بن معاوية ، عن عبيد الله ، به .
وعبادة بن زياد الأسدي ، وإن وصفه أبو حاتم بأنه محله الصدق ، إلا أنه لا يقبل تفرده بحديث من أحاديث الأحكام لم يرد له شواهد ، ولا استشهد به أحدٌ من أئمة المذاهب المتبوعة ، خاصة وقد قال فيه موسى بن هارون : تركت حديثه . وقال فيه ابن عدي : له أحاديث مناكير في الفضائل .
ورواه أيضا ابن عدي في " الكامل " (6/458)، وتمام في " الفوائد " ، وفي سندهما مجاشع بن عمرو ، كذبه يحيى بن معين وغيره . " ميزان الاعتدال " (3/436)
الطريق الثاني : إبراهيم التيمي عن ابن عمر :
رواه العقيلي في " الضعفاء الكبير " (3/432) ، وفي سنده غالب بن حبيب : ضعيف يروي المناكير . " ميزان الاعتدال " (3/330)
الطريق الثالث : بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر :
رواه ابن حبان في " المجروحين " (3/187)، وفي سنده عبيس بن ميمون : يروي الموضوعات . " ميزان الاعتدال " (3/26) .
فالذي يظهر هو ضعف الحديث ، خلافا لمن ذهب إلى تقويته من أهل العلم .
الوجه الثاني : لعل المقصود بالنهي هو الانتقال من المسجد القريب إذا كان يؤدي إلى تفريق المسلمين وإحداث الفتنة بينهم ، أما إن كان لغرض صحيح فلا حرج ولا بأس ، لا سيما إن كانت الفائدة تحصيل علم نافع ، أو موعظة مؤثرة .
قال ابن القيم رحمه الله :
" وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه ، وإيحاش صدر الإمام ، وإن كان الإمام لا يتم الصلاة ، أو يرمي ببدعة ، أو يعلن بفجور : فلا بأس بتخطيه إلى غيره " انتهى.
" إعلام الموقعين " (3/148)
وقد سبق تقرير هذا الجواب في النقل عن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الجواب رقم (108614)
الوجه الثالث في الجواب : لا يبعد أن يفسر الحديث بأن من فاتته صلاة الجماعة في مسجده فلا يكلف أن يتتبع المساجد القريبة ويصلي فيها فيشق على نفسه في التتبع ، وإنما يصلي في مسجده القريب منفردا أو جماعة ويكتفي بذلك .
وينظر : " المصنف " ، لابن أبي شيبة (2/310) .
والله أعلم .
تعليق