الجمعة 7 جمادى الأولى 1446 - 8 نوفمبر 2024
العربية

ما حكم الصيام كل يوم ؟

144592

تاريخ النشر : 08-12-2009

المشاهدات : 140218

السؤال

هل من الجيد الصيام كل يوم ؟

الجواب

الحمد لله.

الصيام كل يوم – عدا الأيام المنهي عن صيامها كالعيدين - يُسَمَّى في الاصطلاح الشرعي " صوم الدهر "، أو " صوم الأبد "، وقد اختلف أهل العلم في حكمه على أقوال ، حتى اختلف أصحاب المذهب الواحد في المسألة ، ووقع الاضطراب في النقل عن المعتمد في المذاهب لهذا السبب .

والذي يتبين أن الخلاف في المسألة – بالإجمال – جاء على قولين :

القول الأول : ينهى عن صوم الدهر مطلقا ، إما على وجه الكراهة ، كما هو مذهب الحنفية ، واختيار ابن قدامة ، وابن تيمية من الحنابلة خلافا للمذهب ، وهو اختيار اللجنة الدائمة للإفتاء (23/221) ، أو على وجه التحريم ، كما ذهب إليه ابن حزم .

جاء في " الدر المختار " (2/84) من كتب الحنفية :

" والمكروه تنزيها كصوم دهر " انتهى بتصرف يسير.

ويقول ابن الهمام الحنفي :

" يكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له ، ومبنى العبادة على مخالفة العادة " انتهى.

" فتح القدير " (2/350)

يقول ابن قدامة رحمه الله :

" الذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام – يعني العيد والتشريق -, فإن صامها قد فعل محرما , وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف , وشبه التبتل المنهي عنه " انتهى.

" المغني " (3/53)

ويقول ابن حزم رحمه الله :

" لا يحل صوم الدهر أصلا " انتهى.

" المحلى " (4/41)

واستدل أصحاب هذا القول بما يلي :

1- قوله صلى الله عليه وسلم : ( لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ )

رواه البخاري (1977) ومسلم (1159)

2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :

( جَاءَ ثَلاثُ رَهطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسأَلُونَ عَن عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أُخبِرُوا كَأَنَّهُم تَقَالُّوهَا ، فَقَالًوا : وأَينَ نَحنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ؟ قَد غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ أَحَدُهُم : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي الَّليلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهرَ وَلَا أُفطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَنتُمُ الَّذِينَ قلُتُم كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخشَاكُم للَّهِ وَأَتقَاكُم لَه ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي )

رواه البخاري (5063) ومسلم (1401)

فدل قوله صلى الله عليه وسلم ( لكني أصوم وأفطر...فمن رغب عن سنتي فليس مني ) على أن صيام الدهر مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .

3- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ؟ قَالَ : لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ ) رواه مسلم (1162)

4- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : ( قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ! أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : فَلَا تَفْعَلْ ، صُمْ وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ...إلى آخر الحديث . وفي رواية : فَقُلْتُ : إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ) رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159)

وقد أجاب المخالفون لهذا القول عن أدلته بما أجاب به الإمام النووي رحمه الله حيث يقول :

" أحدها : جواب عائشة رضي الله عنها وتابعها عليه خلائق من العلماء ، أن المراد : من صام الدهر حقيقة ، بأن يصوم معه العيد والتشريق , وهذا منهي عنه بالإجماع .

والثاني : أنه – يعني حديث ( لا صام من صام الأبد ) - محمول على أن معناه أنه لا يجد من مشقته ما يجد غيره ; لأنه يألفه ويسهل عليه ، فيكون خبرا لا دعاء , ومعناه لا صام صوما يلحقه فيه مشقة كبيرة , ولا أفطر ، بل هو صائم له ثواب الصائمين .

والثالث : أنه محمول على من تضرر بصوم الدهر أو فوت به حقا , ويؤيده أنه في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كان النهي خطابا له , وقد ثبت عنه في الصحيح أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة , وكان يقول : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمرو بن العاص لعلمه بأنه يضعف عن ذلك , وأقر حمزة بن عمرو – سيأتي حديثه فيما بعد - لعلمه بقدرته على ذلك بلا ضرر " انتهى.

" المجموع " (6/443)، وانظر: " فتح الباري " (4/222-224)، وانظر: " الموسوعة الفقهية " (28/16) وإن لم يكن نقل أقوال المذاهب في هذه المسألة محررا.

القول الثاني : يستحب صوم الدهر ، وهو قول المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، أما المالكية والشافعية فقد صرحوا بالاستحباب ، وأما الحنابلة فنصوصهم جاءت بلفظ الجواز .  والاستحباب مقيد عند الجميع بأن لا يؤدي صوم الدهر إلى تقصير في أداء الحقوق والواجبات ، أو يخاف الصائم ضررا على نفسه ، فإن أدى لذلك فيكره حينئذ عند الشافعية والحنابلة ، ويجوز عند المالكية .

جاء في " مواهب الجليل " (2/443) من كتب المالكية :

" ( وصوم دهر ) يعني أنه جائز ، وهل هو الأفضل أو الأفضل خلافه ، قال مالك سرد الصوم أفضل . قال ابن رشد : معنى كلام مالك أن سرد الصوم أفضل إذا لم يضعف بسببه عن شيء من أعمال البر " انتهى باختصار.

وجاء في " المنهاج " للإمام النووي :

" وصوم الدهر - غير العيد والتشريق - مكروه لمن خاف به ضررا أو فوت حق، ومستحب لغيره " انتهى.

" تحفة المحتاج " (3/459)

وجاء في " كشاف القناع " من كتب الحنابلة (2/342)

" ( ويجوز صوم الدهر ولم يكره إذا لم يترك به حقا ولا خاف ضررا ، ولم يصم هذه الأيام ) الخمسة يومي العيدين وأيام التشريق، ( فإن صامها فقد فعل محرما ) " انتهى.

واستدل أصحاب هذا القول بما يلي :

1- عموم الآيات والأحاديث الدالة على فضل العبادة وعمل الخير ، ومنها قوله تعالى : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) الأنعام/160.

2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ) رواه البخاري (2840)، ومسلم (1153)

وأجيب عن هذين الدليلين بأنهما عامَّان في كل صيام ، وقد جاءت الأدلة السابقة بتخصيص صيام الدهر من عموم الاستحباب . 

3- عَن أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا وَقَبَضَ كَفَّهُ )

رواه أحمد في " المسند " (32/484)

قال النووي رحمه الله :

" ومعنى : ( ضيقت عليه ) أي : عنه ، فلم يدخلها " انتهى.

" المجموع " (6/442)

وأجيب عنه بضعفه مرفوعا ، فقد صحح المحدثون المتقدمون ، والمحققون في طبعة مؤسسة الرسالة وقفَه على أبي موسى .

4- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ قَالَ : صُمْ إِنْ شِئْتَ ، وَأَفْطِرْ إِنْ شِئْتَ . رواه مسلم (1121)، وموضع الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سرد الصوم .

5- ما ورد من متابعة بعض الصحابة رضوان الله عليهم للصوم ، ومن ذلك :

يقول النووي رحمه الله : "عن ابن عمر أنه سئل عن صيام الدهر فقال : ( كنا نعد أولئك فينا من السابقين ) رواه البيهقي .

وعن عروة أن عائشة ( كانت تصوم الدهر في السفر والحضر ) رواه البيهقي بإسناد صحيح. وعن أنس قال : ( كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو , فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطرا إلا يوم الفطر أو الأضحى ) رواه البخاري في صحيحه " انتهى. " المجموع " (6/443)

وقد أجاب ابن حزم عن حديث حمزة بن عمرو الأسلمي وغيره من الصحابة الذين ورد أنهم كانوا يسردون الصوم : بأن سرد الصوم ليس هو صيام الدهر كله ، وإنما هو متابعة الصيام لأشهر طويلة حتى يقال : لا يفطر ، ولكن ليس صيام العام كله ، وروى عن بعض الصحابة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه النهي الصريح عن صيام الدهر .

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:

" تعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر ، ولا يلزم من سرد الصيام صوم الدهر ، فقد قال أسامة بن زيد إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال لا يفطر . أخرجه أحمد ، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم الدهر فلا يلزم من ذكر السرد صيام الدهر " انتهى.

" فتح الباري " (4/223)

والخلاصة :

أن الذي يظهر رجحانه هو القول الأول ، القاضي بكراهة صيام الدهر والمنع منه ، وذلك لقوة أدلتهم وصراحتها ، أما أدلة القول الثاني فهي لا دلالة فيها صريحة ، كما أن العلماء أجابوا عنها بما سبق نقله .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب