الحمد لله.
أولاً:
يمكن لبعض من آتاهم الله بصيرة التعرف على بعض حقائق الناس من خلال تعابير وجوههم ، وإليه الإشارة في قوله تعالى ( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ) البقرة/ 273 ، وقوله ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) الفتح/ 29 ، أو من خلال كلامهم ، وإليه الإشارة في قوله تعالى ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) محمد/ 30 .
قال ابن القيم – رحمه الله – في تفسير هذه الآية - :
والمقصود : أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم ؛ فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه : أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه ؛ فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره : أظهر من السيماء المرئية ، والفراسة تتعلق بالنوعين : بالنظر ، والسماع .
" مدارج السالكين " ( 2 / 483 ) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
وكثير من الناس يعطيهم الله سبحانه وتعالى علماً بالفراسة ، يعلمون أحوال الإنسان بملامح وجهه ، ونظراته ، وكذلك بعض عباراته ، كما قال الله عز وجل : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) محمد/ 30 .
" تفسير سورة البقرة " ( 3 / 368 ) .
وقد سمَّى ابن القيم رحمه الله هذه الفراسة " الفراسة الإيمانية " ، وقال في بيان سببها ، وحقيقتها ، وأصلها :
" وسببها : نور يقذفه الله في قلب عبده ، يفرق به بين الحق والباطل ، والحالي والعاطل ، والصادق والكاذب .
وحقيقتها : أنها خاطر يهجم على القلب ، ينفي ما يضاده ، يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة ، ... وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيماناً : فهو أحدُّ فراسة ....
وأصل هذا النوع من الفراسة : من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ، ويستنير ، فلا تكاد فراسته تخطىء ، قال الله : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الأنعام/ 122 ، كان ميْتا بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم ، وجعل له بالقرآن والإيمان نوراً يستضيء به في الناس على قصد السبيل ، ويمشي به في الظلم ، والله أعلم ".
" مدارج السالكين " ( 2 / 483 - 486 ) باختصار .
ثانياً:
وأما " قراءة الوجه " فهي داخلة في نوع من أنواع الفراسة يطلق عليه " الفراسة الخَلقية " .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
الفراسة الثالثة : " الفراسة الخَلْقية " ، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم ، واستدلوا بالخَلْق على الخُلُق ؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله ، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ، وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه : على سعة خُلُق صاحبه واحتماله وبسطته ، وبضيقه على ضيقه ، وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها وضعف حرارة قلبه ، وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة ، وهو الشكل ، على شجاعته وإقدامه وفطنته ، وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه .
ومعظم تعلق الفراسة بالعين ؛ فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه ، ثم باللسان ؛ فإنه رسوله وترجمانه ، وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته ، وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته .
وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة ، وبإفراطه في الجعودة على الشر ، وباعتداله على اعتدال صاحبه .
وأصل هذه الفراسة : أن اعتدال الخلقة والصورة : هو من اعتدال المزاج والروح ، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال ، وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال : يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال ، هذا إذا خليت النفس وطبيعتها .
" مدارج السالكين " ( 2 / 487 ، 488 ) .
وهذا النوع من الفراسة وتلك القراءة للوجه فيها حق وباطل ، وخطأ وصواب ، وما يذكرونه من صفات لخلقة معينة للوجه لا يلزم أن يكون صحيحاً مطلقاً ، وأظهر خطأ فيها : أنهم يجعلون صاحب الخلقة المعينة يلزم أخلاقاً وأوصافاً لا تتغير ! وهذا باطل قطعاً ، فالكافر يسلم ، والنشيط يكسل ، والغني يفتقر ، والعاصي يتوب ، والقلق يهنأ ، والمكروب يزول كربه ، واعكس ذلك كله ، وأضف إلى القائمة ما شئت من أوصاف وأخلاق وفعال ، وهذا مشاهد مجرَّب معروف .
ومن هنا فقد أكمل ابن القيم رحمه الله كلامه السابق بقوله :
" ولكن صاحب الصورة والخِلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره ، ولو أنه من الحيوان البهيم ! فيصير من أخبث الناس أخلاقاً وأفعالاً ، وتعود له تلك طباعاً ويتعذر أو يتعسر عليه الانتقال عنها .
وكذلك صاحب الخِلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقاً وأفعالاً شريفةً تصير له كالطبيعة ؛ فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق .
فليُتأمل هذا الموضع ، ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه ؛ فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيراً ؛ فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة ، وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط ، أو لوجود مانع .
" مدارج السالكين " ( 2 / 488 ) .
فقد تبين أن الفراسة إما أنها تتعلق بالإيمان والبصيرة ، وهذه لا سبيل لتعلمها ، بل هي نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن ، والنوع الآخر قواعد استقرائية يمكن تعلمها ، ويشترك فيها المسلم والكافر ، وفيها خطأ وصواب ، ولا يُبنى عليها علم قطعي ، بل هي أمارات ودلائل ، ربما لا تبلغ درجة الظن الراجح في كثير من أحوالها .
وأما ترويجها بين الناس ، وأكل أموالهم بها : فهو نوع من الكهانة الجديدة التي كثرت صورها في هذه الأيام ، وتحيل المنتفعون بها لأكل أموال الناس بالباطل .
والله أعلم
تعليق