الحمد لله.
أولا :
الحديث المقصود في السؤال ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد رواه جماعة من تلاميذه ، وكانت روايتهم للحديث على وجهين :
الوجه الأول :
لا يشتمل على الجملة محل الإشكال في السؤال ، وهي مناداة المسيح عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره ، وإنما يروى بألفاظ متقاربة ذات مدلول واحد ، ومن هذه الألفاظ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا ، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) رواه البخاري (2109) ومسلم (155) .
وهذا هو لفظ الحديث الذي لا إشكال في ثبوته عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه جماعة من حفاظ تلاميذه ، كسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، وحنظلة بن علي الأسلمي ، وعبد الرحمن بن آم ، والوليد بن رباح .... وغيرهم .
الوجه الثاني :
يشتمل على الجملة الأخيرة الواردة في السؤال ، وهي قوله : ( ثُمَّ لَئِنْ قَامَ عَلَى قَبْرِي فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ! لأُجِيبَنَّهُ ) .
وقد انفرد بروايته على هذا الوجه سعيد المقبري من تلاميذ أبي هريرة رضي الله عنه ، واختلف رواة الحديث عن سعيد المقبري :
1- فرواه بهذا اللفظ أبو صخر ( حميد بن زياد ، ويقال اسمه : حميد بن صخر ) ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه . رواه أبو يعلى في " المسند " (11/462) .
2- ورواه محمد بن إسحاق ، عن سعيد المقبري ، عن عطاء (مولى أم صبية) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه . رواه الحاكم في " المستدرك " (2/651) ، لكن بلفظ: ( وليأتين قبري حتى يسلِّمَ علَيَّ ، وَلَأَرُدَّنَّ عليه ) .
وبهذا اللفظ رواه محمد بن إسحاق أيضاً عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه . رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/493) .
وهذه الأسانيد ليست في درجة الوجه الأول من الصحة
والقبول ، بل لا يخلو إسناد منها من مقال ، أو من راوٍ متكلم فيه .
فأبو صخر ضعفه ابن معين والنسائي ، وأحمد في رواية ، وقد وثقه الدارقطني ، وقال فيه
أحمد – في رواية أخرى - : ليس به بأس . انظر : " تهذيب التهذيب " (3/42).
وعطاء مولى أم صبية قال فيه الذهبي : لا يعرف . كما في " ميزان الاعتدال " (3/78).
وأما محمد بن إسحاق فمدلس ، ولا تقبل روايته إذا قال : عن فلان ، كما في هذا الحديث
.
وأيضاً : فسعيد المقبري رمي بالاختلاط في آخر عمره ، وقيل : إن أثبت الناس فيه
الليث بن سعد – كما في " ميزان الاعتدال " (2/140) - وقد رواه الليث بن سعد عن سعيد
المقبري ، عن عطاء بن ميناء ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وليس فيه اللفظ محل
الإشكال ، وإنما فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والله لينزلن ابن مريم
حكما عادلا ، فليكسرن الصليب ، وليقتلن الخنزير ، وليضعن الجزية ، ولتتركن القلاص
فلا يسعى عليها ، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعون إلى المال فلا يقبله
أحد ) رواه مسلم (155) .
وذكر الحافظ ابن عساكر رواية الليث بن سعد هذه في تاريخ دمشق ، وقال : "وهذا هو
المحفوظ" .. ثم ذكر الألفاظ الأخرى التي رواها محمد بن إسحاق ، وأبو صخر ، وهي محل
الإشكال .
وهذا ـ فيما يظهر ـ إشارة من الحافظ بن عساكر رحمه الله ، إلى تضعيف هذه الألفاظ ،
وأنها ألفاظ شاذة غير محفوظة .
وخلاصة القول : أن اللفظ المقطوع بثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه
الجملة محل الإشكال ، وثبوت هذه الجملة غير مقطوع به .
وإن كان بعض العلماء كالشيخ الألباني قد صححها ، كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة
(2733) .
ثانيا :
على فرض صحة الحديث ، يحتمل أن المراد بقوله :
(ثم لئن قام على قبري فقال : يا محمد ، لأجيبنه) المراد بذلك هو تسليم عيسى بن مريم
عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في رواية الحاكم : ( وليأتين قبري
حتى يسلِّمَ علَيَّ ، وَلَأَرُدَّنَّ عليه ) ؛ فإحدى الروايتين تبين المراد
بالرواية الأخرى ، ويزول الإشكال بالكلية ؛ فرد النبي صلى الله عليه وسلم سلام من
يسلم عليه : ثابت في حق غير عيسى عليه السلام ، ولا إشكال فيه :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ
عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ) .
رواه أحمد (10434) وأبو داود (2041) وحسنه الألباني .
ثالثا :
ليس من النظر السديد في المسائل العلمية أن نقف عند لفظ وارد في إحدى الروايات ،
التي لم نتيقن ثبوتها ، ونبني عليه مسائل عظيمة ، ونتساءل حوله بأسئلة خطيرة ، كما
ورد في السؤال من عبارات لا ينبغي استعمالها في حق الأنبياء ، كقول السائل : " ألا
يأثم عيسى عليه السلام بذلك... وهل معنى هذا أن عيسى عليه السلام غير معنيٍّ باتباع
شريعة محمد صلى الله عليه وسلم " .
فالأنبياء عليهم السلام هم أكمل الناس وأحسنهم أدباً وخلقاً ، بل جميع الأنبياء أخذ
الله عليهم الميثاق والعهد المؤكد لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء
ليؤمنن به .
قال الله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا
آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ
عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ ) آل عمران/81 .
وعيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان ، لن ينزل على
أنه رسول جديد من الله ، وقد جاء برسالته إلى الناس ؛ وإنما سينزل يقيم في الناس
شرع النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحكم فيهم بسنته .
ففي صحيح مسلم (156) عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ
أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُولُ لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ) .
والله أعلم .
تعليق