الحمد لله.
لاشك أن سني الدعوة التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة يدعو إلى سبيل ربه ، ويتحمل الأذى ، ويصبر على مقولة السفهاء ، لا شك أنها محسوبة من عمر الإسلام ، بل هي من أعظم سني الإسلام ، لما كان عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم من تمام التوكل على ربه وحسن الظن به والصبر على الأذى في سبيله .
وهذا أمر لا يشك فيه عاقل ، ولا ينكره أحد على الإطلاق ، سواء من المسلمين أو من غيرهم .
ولكن الذي حدا بالناس أن يعتمدوا تاريخ الهجرة عند التقويم أو عند ذكر سنة وقوع الحدث ، وهو الذي يقع غالبا في كلامهم ، أن هذا التاريخ هو ما اتفق عليه الصحابة أن يؤرخوا به زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذلك لأنه التاريخ الحقيقي لقيام الدولة الإسلامية ، بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبنزوله المدينة ، واجتماع الناس حوله ، ونصرتهم له ، وبناء المسجد ، وغير ذلك مما ترتب على الهجرة ، فبدأت معالم الدولة الإسلامية تظهر وتتضح جغرافيا واجتماعيا وعسكريا وسياسيا ، وأما قبل ذلك فلم يكن للمسلمين دولة ، ولم يكن لهم نظام جامع .
وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة - وقيل سنة سبع عشرة ، أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة ، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك - أي حجة - لرجل على آخر وفيه ، أنه يحل عليه في شعبان .
فقال عمر: أي شعبان ؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية ، أو الآتية ؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك .
فقال قائل : أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك ، وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم ، فكره ذلك .
وقال آخرون : أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال آخرون بل بمبعثه ، وقال آخرون بل بهجرته ، وقال آخرون بل بوفاته عليه السلام .
فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره ، واتفقوا معه على ذلك .
والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة ، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم ، وهذا هو قول جمهور الأئمة ، لئلا يختلط النظام .
انظر : "البداية والنهاية" (3 /251-253) .
وقد روى البخاري في صحيحه (3934) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : ( مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ مَا عَدُّوا إِلَّا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وَقَدْ أَبْدَى بَعْضهمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَة فَقَالَ : كَانَتْ الْقَضَايَا الَّتِي اتّفقَتْ لَهُ وَيُمْكِن أَنْ يُؤَرَّخ بِهَا أَرْبَعَة : مَوْلِده وَمَبْعَثه وَهِجْرَته وَوَفَاته , فَرَجَحَ عِنْدهمْ جَعْلهَا مِنْ الْهِجْرَة ، لِأَنَّ الْمَوْلِد وَالْمَبْعَث لَا يَخْلُو وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ النِّزَاع فِي تَعْيِين السَّنَة , وَأَمَّا وَقْت الْوَفَاة فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ , فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَة , وَإِنَّمَا أَخَّرُوهُ مِنْ رَبِيع الْأَوَّل إِلَى الْمُحَرَّم لِأَنَّ اِبْتِدَاء الْعَزْم عَلَى الْهِجْرَة كَانَ فِي الْمُحَرَّم , إِذْ الْبَيْعَة وَقَعَتْ فِي أَثْنَاء ذِي الْحِجَّة وَهِيَ مُقَدِّمَة الْهِجْرَة , فَكَانَ أَوَّل هِلَال اِسْتَهَلَّ بَعْد الْبَيْعَة وَالْعَزْم عَلَى الْهِجْرَة هِلَال الْمُحَرَّم ، فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَل مُبْتَدَأ , وَهَذَا أَقْوَى مَا وَفَقْت عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسَبَة الِابْتِدَاء بِالْمُحَرَّمِ .
وَرَوَى الْحَاكِم عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ " جَمَعَ عُمَر النَّاس فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَوَّل يَوْم يَكْتُب التَّارِيخ , فَقَالَ عَلِيّ : مِنْ يَوْم هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَك أَرْض الشِّرْك , فَفَعَلَهُ عُمَر ... " انتهى ملخصا .
فالذي يعتبر أن عمر الإسلام إنما يبدأ بالهجرة ، إنما يقصد التاريخ والتقويم وما اتفق الناس عليه من توحيد النظام لمعرفة الأيام والأحداث ، وتصحيح المواقيت للناس في العقود والوفود ونحو ذلك : فهذا أمر اتفق الناس عليه من خلافة عمر رضي الله عنه إلى يومنا هذا ، والذي يحدد بهذا التاريخ إنما يقصد عمر تكوين وإنشاء الدولة ، وهذا إنما ابتدأ بالهجرة .
وأما بدء أمر الإسلام ، ومعرفة الناس به : فلا يحتاج إلى تنبيه أنه قبل ذلك ، بل الإسلام بمعناه العام : يشمل الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، وأرسل به أنبياءه ورسله ، وهذا غير مراد في هذا المقام .
ولا نعتقد أن أحدا يتصور أن بداية الإسلام الحقيقية إنما هو من الهجرة ، ويلغي سنين الدعوة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بمكة قبل الهجرة ، هذا لا يقوله أحد .
والله تعالى أعلم .
تعليق