الحمد لله.
فقه الشريعة يبنى على السنن المتواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يخاطب فيها أمته ، ويرشدهم بها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ، ولا يبنى على حوادث أعيان لها ظروفها الخاصة أو شرائعها المستقلة التي يتمسك بها بعض الناس ، ويعارضون بها الأدلة الصريحة الواردة في سياقها التشريعي العام .
هكذا يظهر لنا أن فئاما من الناس حرفوا مسألة " مغالاة المهور " عن مسارها ، فأعرضوا عن جميع الأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على تيسير المهر ، والتخفيف فيه ، وحث الأولياء على تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، ولجؤوا إلى قصة زواج موسى عليه السلام من ابنة شعيب ، وقوله سبحانه : ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) القصص/27.
جاء في " تفسير السعدي " (ص614) : " أي : تصير أجيرا عندي ( ثَمَانِيَ حِجَجٍ ) أي : ثماني سنين " انتهى.
وغاية ما تدل عليه هذه الآية – كما يقول الفقهاء – جواز أن يشترط الولي لنفسه شيئا عند تزويج ابنته ، كما هو مذهب الحنابلة ، وقد سبق بيانه في الفتوى رقم : (2491) .
سئل الإمام أحمد رحمه الله :
إذا زوج الرجل ابنته أو أخته واشترط لنفسه شيئاً ؟
قال : لا يجوز لغير الأب .
قلت : لأن يد الأب مبسوطة في مال ولده يأخذ ما شاء ؟
قال : نعم .
قال إسحاق : هو كما قال ، ولا يجوز لغير الأب أن يشترط لنفسه شيئاً " انتهى من " مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه " (4/1527)
ومع ذلك فقد سبق في موقعنا
ترجيح مذهب الشافعية الذين قالوا بعدم جواز أن يشترط الأب أو غيره لنفسه شيئا ،
وذلك في الفتوى رقم : (140036)
.
وقد روى ابن أبي شيبة في " المصنف " (3/327) قال : " حدثنا عيسى بن يونس ، عن
الأوزاعي أن رجلا زوَّج ابنته على ألف دينار ، وشرط لنفسه ألف دينار ، فقضى عمر بن
عبد العزيز للمرأة بألفين دون الأب " .
وعلى فرض الأخذ بقول الحنابلة ، فحكم الجواز لا يعني تغيير السنة النبوية بتيسير المهور وتجنب المغالاة فيها ، فسنة النبي صلى الله عليه وسلم تبقى هي الأصل ، ولا تعارض بحادث عين وقع في شرائع الأنبياء الماضية يحتمل التأويل،. ولمعرفة الأدلة الواردة في استحباب تقليل المهور يرجى النظر في الفتاوى : (10525) ، (12572) .
هذا فضلا عن أن مطالبة
عَصَبة الزوجة نفقةً خاصة يدفعها الزوج لهم ، أو مساعدات مالية على وجه الإلزام أو
الاستحياء ، كله من السحت والمال الحرام الذي حرَّمه الله ورسوله ، فقد قال الله عز
وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) النساء/29.
ويقول عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ
عَلَيْكُمْ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ
هَذَا ) رواه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
بل عد فقهاء الحنفية ما يؤخذ على هذا الوجه إلزاما لدرء الشر والأذى رشوة محرمة ،
كما جاء في "رد المحتار" (3/156): " إن أبى أن يسلِّمَها أخوها أو نحوه حتى يأخذ
شيئا ، وكذا لو أبى أن يزوجها ، فللزوج الاسترداد ، قائما أو هالكا ؛ لأنه رشوة "
انتهى.
وهكذا لم يقل أحد من العلماء
إن نفقة الزوج على أهل زوجته واجبة عليه من قريب ولا من بعيد ، وليس لهم مدخل أصلا
فيمن تجب عليه نفقتهم ؛ ولم يرد ذلك في كتب السنة والفقه والآثار ، فالصواب أن
تحذفهم من القائمة التي أعددتها ، وأما جعلهم آخر القائمة ففيه منحهم حقا ليس لهم ،
وذلك من الظلم البين .
وأما الإحسان إلى الخلق ، والتطوع بإطعام المحتاج ومعونته ، فهذا باب آخر ، سوى ما
يتحدث عنه هؤلاء الناس ، ولا مدخل في مثل ذلك للمطالبة ، ولا إلزام بأحد بما لم
يلزمه به الشرع .
فليتق الله أولئك الذين
يسعون في خراب بيوت بناتهم وأخواتهم ، ويسعون في سبيل قطع الطريق على سعادتهن
وهنائهن مع أزواجهن ، وليعلموا أن الله عز وجل مطلع عليهم ، وسيحاسبهم حساب
الظالمين الذين لا يرقبون رحمة ولا شفقة ، ولا يرعون حرمة ولا حقا .
والله أعلم .
تعليق