الحمد لله.
أولا :
اختلف العلماء في " خطبة الحاجة " ومشروعيتها في بداية التأليف والتصنيف أو المراسلات بين الناس ، وذلك على قولين :
القول الأول : " خطبة الحاجة " ليست سنة في ابتداء الكتابة والتأليف .
يقول ابن علان رحمه الله :
" الخطبة المعروفة من خطبة الجمعة والعيد ونحوهما ، وخطبة الحاجة ونحوها ؛ لأنها المعهودة في عهد الشارع ، دون خطب نحو الكتب ، وقد ترك الإتيان بها – أي بالشهادة – الترمذي في جامعه وشمائله ، وكذا أبوداود ، وهما راويا الحديث ، فدل صنيعهما على تخصيصه بما ذكر " انتهى من " الفتوحات الربانية " (6/63) دار إحياء التراث العربي.
ويقول الملا علي القاري رحمه الله :
" لما ترك أكثر المصنفين العمل بظاهر هذا الحديث ( كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء ) دل على أن ظاهره غير مراد ، فيؤول بأحد التأويلات ، والأظهر عندي أن تحمل الخطبة في هذا الحديث على الخطب المتعارفة في زمانه صلى الله عليه وسلم أيام الجمع والأعياد وغيرها ، فإن التصنيف حدث بعد ذلك " .
انتهى من " جمع الوسائل شرح الشمائل " (1/5) طبعة مصطفى البابي الحلبي.
واستدلوا بالأدلة الآتية :
الدليل الأول : كُتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء ليس فيها البداءة بهذه الخطبة ، كما أنه عليه الصلاة والسلام في كثير من كتبه التي أمر بكتابتها للمسلمين في بيان الصدقات والديات وغيرها لم يأمر ببداءتها بخطبة الحاجة ، وليس فيها الحمد والتشهد ، وإنما فقط البسملة .
يقول ابن حجر رحمه الله :
" جمعت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم ، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد ، بل بالبسملة " انتهى من " فتح الباري " (7/220) .
الدليل الثاني : أن أحدا من أهل العلم المصنفين في الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل أو الفقه كالشافعي ، أو التفسير أو علوم القرآن أو النحو ، كلهم لم نجد أحدا منهم يبتدئ كتابه بخطبة الحاجة ، كما لم نقف على من يذكر خطبة الحاجة في كتب الآداب ، أو يقرر استحبابها في التأليف والمراسلات ، وإنما يذكرونها في كتاب " النكاح " فحسب ، فإذا كان ذلك سنة فكيف تغيب عن علماء الإسلام الذين هم مادته وقوامه !!
يقول ابن حجر رحمه الله :
" تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري ، وشيوخ شيوخه ، وأهل عصره ، كمالك في الموطأ ، وعبد الرزاق في المصنف ، وأحمد في المسند ، وأبي داود في السنن ، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة ، ولم يزد على التسمية ، وهم الأكثر ، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة .... أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب ، كما تقدم ، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد كما صنع مسلم ... وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة ، وكذا معظم كتب الرسائل " انتهى من " فتح الباري " (1/9) .
القول الثاني : " خطبة الحاجة " سنة مستحبة في أوائل المصنفات والمراسلات ، وهو قول الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله (ت229هـ) الصريح في مقدمة كتابه " مشكل الآثار "، كما هو ظاهر ما يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقد افتتح الكثير من رسائله بإحدى صيغ خطبة الحاجة الثابتة ، وهي من الكثرة بحيث يشق حصرها ، تجدها في " مجموع الفتاوى "، و " جامع الرسائل "، وكذلك كتبه " درء التعارض "، و" بيان تلبيس الجهمية "، و" الأخنائية "، وكذلك العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله ، افتتح كتبه " الطرق الحكمية "، و" الصلاة وأحكام تاركها " بهذه الخطبة .
يقول الطحاوي رحمه الله :
" ابتدأته – يعني كتابه - بما أمر صلى الله عليه وسلم بابتداء الحاجة به ، مما قد روي عنه بأسانيد أنا ذاكرها بعد ذلك إن شاء الله ، وهو : إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله – وذكر الآيات الكريمات " انتهى من " شرح مشكل الآثار " (1/6) .
ويقول ابن تيمية رحمه الله :
" لهذا استُحبت – يعني خطبة الحاجة - وفعلت في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصا ، من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك ، وموعظة الناس ومجادلتهم ، أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية .
وكان الذي عليه شيوخ زماننا الذين أدركناهم وأخذنا عنهم وغيرهم يفتتحون مجلس التفسير أو الفقه في الجوامع والمدارس وغيرها بخطبة أخرى . مثل : الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ورضي الله عنا وعنكم وعن مشايخنا وعن جميع المسلمين ، أو وعن السادة الحاضرين وجميع المسلمين .
كما رأيت قوما يخطبون للنكاح بغير الخطبة المشروعة ، وكل قوم لهم نوع غير نوع الآخرين ، فإن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح ، وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضا ، والنكاح من جملة ذلك ، فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات هو كمال الصراط المستقيم ، وما سوى ذلك إن لم يكن منهيا عنه فإنه منقوص مرجوح ، إذ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ".
انتهى من " مجموع الفتاوى " (18/ 287) .
ويقول ابن علان رحمه الله :
" وقيل : بل الخطبة على عمومها ، ولعل أبا داود والترمذي أتيا بها لفظا ، وأسقطاها خطا ، وذلك كاف " انتهى من " الفتوحات الربانية " (6/63) .
ويقول الشيخ الألباني رحمه الله :
" هذه الخطبة تفتتح بها جميع الخطب ، سواء كانت خطبة نكاح ، أو خطبة جمعة ، أو غيرها ، فليست خاصة بالنكاح - كما قد يظن - وفي بعض طرق حديث ابن سعود التصريح بذلك كما تقدم " انتهى من " خطبة الحاجة " (ص/36) .
واستدلوا على ذلك بالأدلة الآتية :
الدليل الأول : الأحاديث الكثيرة الواردة في افتتاح النبي صلى الله عليه وسلم بعض خطبه ومواعظه وكلامه بخطبة الحاجة . ولم يخصها بالنكاح ، فقد تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ضمام بن ثعلبة ، ولم يكن في ذلك نكاح ولا جمعة ولا عيد .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : ( أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ ... فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ ، فَهَلْ لَكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَمَّا بَعْدُ ) ، قَالَ : فَقَالَ : أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ . فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . قَالَ : فَقَالَ : لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ ، قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، قَالَ : فَبَايَعَهُ ) رواه مسلم (868) .
ومن ذلك أيضا حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ ، وَالتَّشَهُّدَ فِي الحَاجَةِ ) رواه الترمذي (1105) وقال : حديث حسن .
فقالوا : إن كلمة ( الحاجة ) تشمل كل حاجة ، سواء كانت درسا وموعظة وخطبة ، أم مصنفا وتأليفا ورسالة ، أم غيرها .
يقول السندي رحمه الله :
" الظاهر عموم الحاجة للنكاح وغيره ، فينبغي للإنسان أن يأتي بهذا ليستعين به على قضائها وتمامها " انتهى من " حاشيته على سنن النسائي " (3/105) .
الدليل الثاني : العموم الوارد في بعض الروايات ، منها ما ورد في " سنن أبي داود " (2118) عن عبد الله بن مسعود قوله : ( عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خُطبَةَ الحَاجَةِ فِي النِّكَاحِ وَغَيرِهِ ).
الدليل الثالث : افتتاح بعض العلماء كتبهم بهذه الخطبة ، كما سبق عن كل من الإمام الطحاوي (ت229هـ)، وابن تيمية (728هـ)، وابن القيم (751هـ) .
مناقشة الأدلة :
بالتأمل في أدلة الفريقين يمكننا أن نتبين رجحان القول الأول لقوة أدلته .
أما الجواب على أدلة القول الثاني :
فدليلهم الأول ليس فيه نص في محل الخلاف الذي هو ابتداء الكتب والمصنفات ، فجميع الروايات الواردة في خطبة الحاجة إنما هي في الخطب القولية واللفظية ، أما السنة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء وغيرهم فليس في شيء منها خطبة الحاجة ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم مبين للمجمل ، وموضح للمبهم .
أما الدليل الثاني فلا يسلَّم لهم أيضا ، فقد وردت زيادة ( في النكاح وغيره ) من طريق أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود . وهذا إسناد منقطع ، فأبو عبيدة لم يسمع من أبيه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وهذا ما عقب به النسائي على الحديث بعد أن أخرجه في " السنن " (1404) قال : " أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا "
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
" هذه الزيادة ( في النكاح وغيره ) هي لأبي داود من طريق سفيان عن أبي إسحاق ، وظاهرها أنها من قول ابن مسعود ، لكن خالف شعبة ، فجعلها من قول أبي إسحاق ، حيث قال : قلت لأبي إسحاق : هذه في خطبة النكاح أو في غيرها ؟ قال : في كل حاجة . رواه الطيالسي " انتهى من " خطبة الحاجة " (ص10) وعلى فرض صحة الزيادة فالمقصود بها غير النكاح من الكلام والمواعظ ، وليس الكتابة والتأليف .
وأما الدليل الثالث فهو محل الخلاف ، فلا يستدل بموضع النزاع ، كما لا ينبغي أن يستدل برأي بعض العلماء على الآخرين ، وإنما العبرة بالسنة النبوية المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله .
وحين نقول بعدم السنية فذلك لا يعني عدم الجواز ، فلا مانع أن يستفتح الكتاب بخطبة الحاجة أحيانا ، ولكن ذلك لا يعني الاستحباب والندب .
هذا فضلا عن أن كل من بدؤوا بعض كتبهم بخطبة الحاجة : كان هديهم الأكثر على خلاف ذلك ، فالطحاوي لم يفتتح سوى كتاب واحد بهذه الخطبة ، أما بقية كتبه فلم يفعل . وكذلك الشأن لدى كل من ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله جميعا .
وجواب الشيخ الألباني رحمه الله عن ذلك بقوله : " هي ليست فرضا حتى لا تترك ، بل قد يكون العكس هو الأصوب ، وهو تركها أحيانا ، حتى لا يتوهم أحد فرضيتها ".
انتهى من " خطبة الحاجة " (ص/42) .
مثل هذا الجواب يصلح لو كانت ثبتت الحجية بأدلة صريحة من قول النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على بداءة الكتب بها أو فعله ، ولكن لما لم يثبت ذلك فترك العلماء لها يؤيد عدم سنيتها.
يقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله :
" وهؤلاء المؤلفون من علماء الإسلام ، لا تراهم كذلك ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، فإنه في كتبه وفتاويه يفتتح بها تارة ، وبغيرها تارة أخرى .
ولهذا فإن ما تشاهده وتسمعه في عصرنا من التزام بعض الكتاب بافتتاح رسائلهم بها ، وخطبهم بها ، كل هذا التزام لا أعرفه في الحياة العملية في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم ، ولا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان ، ومن ادعى فعليه الدليل .
بهذا التقرير تعلم فقه أصحاب السنن رحمهم الله تعالى في ترجمة خطبة الحاجة في " كتاب النكاح " وتقرير العلماء بمشروعيتها بين يدي عقد الزواج " انتهى من " تصحيح الدعاء " (ص/454-455)، وانظر : " معجم المناهي اللفظية " (ص: 590) .
فالخلاصة :
أن الهدي العام في المؤلفات هو البداءة بالبسملة ، أو الحمدلة العامة بأي صيغة ترد ، أما خطبة الحاجة المشتملة على ألفاظ معينة وآيات محددة : فليست سنة في المؤلفات والمصنفات.
بل قد قال كثير من العلماء إنما تستحب في خطبة النكاح فقط ، لأنك عند البحث والتفتيش تتبين أن عشرات المحدثين والفقهاء في كتب الفقه والحديث إنما أوردوا خطبة الحاجة في معرض أبواب النكاح وآدابه وأحكامه ، ولو رحنا نسوق ذلك لطال المقام بنا جدا .
والله أعلم .
تعليق