الحمد لله.
أولا :
روى الإمام مسلم في صحيحه (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ) .
جاء في " فتاوى اللجنة
الدائمة – المجموعة الأولى " (9/57) :
" يجب على المسلم إنكار المنكر بقدر استطاعته ، إذا علم أنه منكر بالأدلة الشرعية ،
إما بيده إن كان أهلا لذلك ؛ كولي الأمر في رعيته ، ورب الأسرة في بيته ، ومن جعل
له السلطان ذلك ، وإلا فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " .
ثانيا :
الحياء خير كله ، والحياء لا يأتي إلا بخير ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عند القدرة عليه : ليس من هذا الخير الذي يأتي به الحياء ، وليس هذا هو الحياء
الشرعي الممدوح ، بل هذا ضعف ، وخجلة تعتري النفوس ؛ فالحياء الممدوح هو : ما منع
صاحبه من فعل القبائح والرذائل ، وسفاسف الأخلاق والأفعال والأقوال .
ثالثا :
روى البيهقي في " الشعب " (6469) عن الفضيل بن عياض رحمه الله ، قال : " تَرْكُ
الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ
، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللهُ عَنْهُمَا " .
وقد تلقى هذا الكلام عن الفضيل رحمه الله بالقبول عامة أهل العلم والسنة ، وجعلوه من جليل الكلام ؛ إلا أنه ليس معناه على ما ظنه السائل ، كما وجهه بذلك أهل العلم ، بل هو في باب آخر : أن يعرض له العمل من الخير ، فيتركه ، يتحسَّن بذلك الترك أمام الناس .
قال الإمام النووي رحمه الله
:
" ومعنى كلامه رحمه الله تعالى: أن من عزم على عبادة ، وتركها مخافة أن يراه الناس
فهو مراء ، لأنَّه ترك العمل لأجل الناس ، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا
مستحب ، إلاّ أن تكون فريضة أو زكاة واجبة ... فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل " انتهى
من " شرح الأربعين " .
وقال ابن علان رحمه الله :
" وقرره الشيخ زكريا ـ يعني : الأنصاري ـ على وجه لطيف ، فقال : ترك العمل لأجل
الناس : رياء ، من حيث يتوهم منهم أنهم ينسبونه إلى الرياء ، فيكره هذه النسبة ،
ويحب دوام نظرهم له بالإخلاص ، فيكون حراما بتركه محبة لدوام نسبته للإخلاص ، لا
للرياء " انتهى من " الفتوحات الربانية " (1/70) .
وقال الشيخ محمد بن مصطفى ،
أبو سعيد الخادمي رحمه الله :
" ( وَقَدْ يَتْرُكُهُمَا ) أَيْ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدَ ( لَا خَوْفًا مِنْ
الرِّيَاءِ بَلْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الرِّيَاءِ ) أَيْ لِئَلَّا
يَنْسُبَهُ أَحَدٌ إلَى الرِّيَاءِ ( وَيُقَالُ إنَّهُ مُرَاءٍ ) فَيَتْرُكُ مَا
اعْتَادَهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ( وَهَذَا عَيْنُ الرِّيَاءِ ) لِأَجْلِ
النَّاسِ وَأَنَّهُ إذَا صَحَّ مُعَامَلَتُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُغَيِّرْ
فِي الْوَحْدَةِ وَالْخُلْطَةِ ( لِأَنَّهُ تَرَكَ ) إيَّاهُمَا ( خَوْفًا مِنْ
سُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ .. ) " انتهى من " بريقة محمودية " (2/160) .
وقال ابن مفلح الحنبلي رحمه
الله :
" مِمَّا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ : أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ طَاعَةٍ يَقُومُ عِنْدَهُ
شَيْءٌ يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِهَا ، خَوْفَ وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ !!
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي : عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى ذَلِكَ ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ
يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَرَغَّبَهُ فِيهِ ،
وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ
مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا
يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ خَوْفًا مِنْ أَنْ
يُظَنَّ بِهِ الرِّيَاءُ ، بَلْ يَذْكُرُ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَيَقْصِدُ بِهِ
وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَكَرَ قَوْلَ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ،
وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ ، قَالَ : فَلَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ
عَلَيْهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ ، وَالِاحْتِرَازِ مِنْ تَطَرُّقِ ظُنُونِهِمْ
الْبَاطِلَةِ : لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ . انْتَهَى
كَلَامُهُ .
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فَأَمَّا تَرْكُ الطَّاعَاتِ خَوْفًا مِنْ
الرِّيَاءِ : فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ غَيْرَ الدِّينِ ،
فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ
عَلَى ذَلِكَ الدِّينَ ، وَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْلِصًا
: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ ؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ الدِّينُ ،
وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقَالَ : مُرَاءٍ ، فَلَا
يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : إذَا أَتَاك الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ ،
فَقَالَ : إنَّك مُرَاءٍ فَزِدْهَا طُولًا .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ تَرَكَ الْعِبَادَةَ خَوْفًا
مِنْ الرِّيَاءِ ، فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ أَحَسُّوا مِنْ نُفُوسِهِمْ
بِنَوْعِ تَزَيُّنٍ فَقَطَعُوا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلِ
الْأَعْمَشِ كُنْتُ عِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَهُوَ يَقْرَأُ فِي
الْمُصْحَفِ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ فَغَطَّى الْمُصْحَفَ ، وَقَالَ : لَا يَظُنُّ
أَنِّي أَقْرَأُ فِيهِ كُلَّ سَاعَةٍ " انتهى من " الآداب الشرعية " (1/266) .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (91763)
، وجواب السؤال رقم : (188050) ، وجواب
السؤال رقم : (121553) .
رابعا :
مدار الحال فيمن ترك إنكار المنكر : على نيته ومقصده ، فإن تركه تزينا عند الناس
بتركه ، وحفظا لمكانته عندهم ، أو حرصا على أن يقال عنه : إنه مخلص ، أو نحو من ذلك
: فهذا من الرياء ، وهذا هو الذي تكلم عنه الفضيل بن عياض ، كما سبق .
وأما إن تركه ضعفا ، أو خوفا ، أو نحو ذلك ، فهذا هو وإن كان حاله مذموما ، إلا أنه
لا يبلغ به الشرك ، ولا الرياء ؛ بل حاله كحاله غيره ممن ترك الواجب الشرعي عليه ،
مع القدرة عليه .
وأما من تركه مراعاة لمصلحة شرعية معتبرة : فهذا لا حرج عليه ، بل هو بحسب اجتهاده
، وما ترجح عنده .
قال علماء اللجنة :
" قوله : " إن ترك العمل من أجل الناس رياء " ليس على إطلاقه ، بل فيه تفصيل ،
والمعول في ذلك على النية ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال
بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) مع العناية بتحري موافقة الشريعة في جميع الأعمال
.
فإذا وقع للإنسان حالة ترك فيها العمل الذي لا يجب عليه ؛ لئلا يظن به ما يضره فليس
هذا من الرياء ، بل هو من السياسة الشرعية ، وهكذا لو ترك بعض النوافل عند بعض
الناس خشية أن يمدحوه بما يضره أو يخشى الفتنة به ، أما الواجب فليس له أن يتركه
إلا لعذر شرعي " انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى " (1/768-769)
.
خامسا :
إذا قدر أن العبد ترك إنكار المنكر : إما لعجزه ، أو ضعفه ، أو لمصلحة شرعية ترجحت
لديه ، أو غير ذلك ، فإن أضعف مراتب الإنكار : أن يكون ذلك بقلبه ، وهذا يستلزم منه
ألا يجامع المنكر في مكانه ، بمعنى ألا يقعد في المكان الذي يُعصَى الله فيه ، وهو
يقدر على مفارقته ، من غير عذر شرعي معتبر .
ثم إن الحكم في ذلك : يختلف
باختلاف حال المنكر المعين ، فالذي يقعد في مكان يكفر فيه بالله عز وجل ، ويشرك به
، ويستهزأ بآياته ، ليس كمن يقعد في مكان يشرب فيه الدخان ، أو يستمع فيه إلى
الغناء .
والمكان الذي يشيع فيه مثل هذا المنكر ، ليس في المكان الذي يقل فيه ، وهكذا ، وهي
مراتب من فقه العمل ، وفقه الأمر والنهي ، والموفق من سدده الله ، واستضاء في كل
ذلك بنور العلم والحكمة .
قال الله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) النساء/ 140 .
قال النحاس رحمه الله في "
إعراب القرآن " (1/ 244) :
" فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ؛ لأنّ من لم يجتنبهم
فقد رضي فعلهم ، والرضى بالكفر كفر " انتهى .
وقال القرطبي رحمه الله :
" فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ
مِنْهُمْ مُنْكَرٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ ،
وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ َ: (إِنَّكُمْ إِذاً
مِثْلُهُمْ) . فَكُلُّ مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ
عَلَيْهِمْ يَكُونُ مَعَهُمْ فِي الْوِزْرِ سَوَاءً ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ
عَلَيْهِمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْمَعْصِيَةِ وَعَمِلُوا بِهَا ، فَإِنْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ حَتَّى
لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ " انتهى من " تفسير القرطبي " (5/418) .
وانظر للفائدة إلى جواب السؤال رقم : (96662) ، وجواب السؤال رقم : (101639) ، وجواب السؤال رقم : (13217) ، وجواب السؤال رقم : (65551) .
والله أعلم .
تعليق