السبت 8 جمادى الأولى 1446 - 9 نوفمبر 2024
العربية

حوارات في النفس ، وتساؤلات في العقيدة

219568

تاريخ النشر : 04-11-2014

المشاهدات : 8726

السؤال


إذا سألت شيخاً أثق به عن أمر متعلق بالعقيدة فكيف يمكنني التأكد أنّ ما يقوله هو فعلاً ما يعتقد به ؟ وهل من الممكن أن يضل الله من كان في يوم من الأيام على الطريق المستقيم ؟ وهل يكفي أن أقول أنني أؤمن بما يقوله هذا الشيخ ما دام أنه يتبع السلف ؟ ألا يعني وجود هذا الشك لدي أنني أشك في جزء من العقيدة ؛ لأنني لا أعلم ما في قلب الشيخ ؟ على سبيل المثال : عندما أسمع شيخاً أثق به يقول لنا أنه يجب أن نؤمن بكذا وكذا يأتيني الشيطان ويقول لي : " أثبت أنّ ما تقوله هو ما تؤمن به وإلا فادعو الله أن يدخلك النار إن كنت كاذباً " ، وبما أنني أخشى الذهاب إلى النار فلا أدعو بذلك ، فهل يعني هذا أنني أشك في العقيدة ؟ وكيف ينبغي لي التعامل مع هذا الأمر؟ هل يكفيني أن أقول أنني أؤمن بما يقول هذا الشيخ إن لم يكن ضالاً مع العلم أنه لا يمكن التأكد مما في قلبه ؟ وهل يجب على أن أدعو الله أن يدخلني النار إن كانت عقيدتي خاطئة حتى أثبت لنفسي أنني على العقيدة الصحيحة ؟

الجواب

الحمد لله.


أولا :
الواجب على العامي ، وكذلك طالب العلم المبتدئ أن يرجع في أمر دينه إلى أهل العلم الثقات ، ويعتقد صحة ما يقولونه ويعمل به ؛ لأنه لا يستطيع أن يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة لعدم أهليته لذلك ، فلم يبق أمامه طريق لمعرفة الحق إلا بسؤال أهل العلم الثقات واتباعهم .
قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) النحل/43-44 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" واجتهاد العامة هو طلبهم العلم من العلماء ، بالسؤال والاستفتاء ، بحسب إمكانهم " .
انتهى من "جامع الرسائل" (2/318) .
وانظر جواب السؤال رقم : (148057).
وحينما نقول : أهل العلم الثقات ، فذلك يعني أن هذا الشخص مشهود له بالعلم بالكتاب والسنة وأقوال السلف وأئمة أهل السنة ، وهو في الوقت ذاته ( ثقة) أي : مستقيم في أقواله وأعماله ، معظم لحرمات الله ، واقف عند حدوده ، فهذا هو الذي يجب سؤاله والعمل بفتواه .
أما من لم يشتهر بالعلم أو لم يكن ثقة ولا عدلا ، بل كان مرتكبا للمحرمات الظاهرة ، متهاونا بدينه فذلك لا يجوز الاعتماد على فتواه .
وحينئذ لا يرد سؤالك : من أين أعلم أن هذا الشيخ يعتقد بقلبه ما يقوله ؟
والجواب على هذا : أن هذا يُعلم بحاله ومدى استقامته على شرع الله ، أما الاحتمالات الضعيفة البعيدة فلا يجوز الاعتماد عليها ، ولا بناء الأحكام عليها .
ومثل ذلك : احتمال أن يكون هذا الشخص لا يعتقد ما يقوله ، فإذا كان هذا الشخص مستقيما في دينه (ثقة) فمثل هذا الاحتمال البعيد لا يلتفت إليه ، ويكون كعدمه ، ولا يجوز أن يثير شكوكا في نفس من يتبع ذلك العالم .
ثانيا :
يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء ولا يظلم ربك أحدا ، فمن كان أهلا للهداية صالحا لها هداه وأرشده ، ومن كان لا يصلح إلا للشر ويختاره على الخير أضله .
قال الله عز وجل : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الصف/ 5 .
قال السعدي رحمه الله :
" (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى ، لأنهم لا يليق بهم الخير ، ولا يصلحون إلا للشر، (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم ، لا لهم قصد في الهدى ، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده ، ليس ظلما منه، ولا حجة لهم عليه ، وإنما ذلك بسبب منهم ، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه ، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب عقوبة لهم وعدلا منه بهم ، كما قال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) " انتهى من " تفسير السعدي" (ص: 859)
وروى البخاري (3332) ، ومسلم (2643) عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فهو فيما يبدو للناس يعمل بعمل أهل الجنة ، أما فيما يخفى على الناس ففي قلبه سريرة خبيثة أودت به وأهلكته " انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (5/ 238) .
فيمكن أن يكون العبد في ظاهر حاله على طريق الهداية يوما ما ثم يضله الله تعالى ، وذلك لما يعلم سبحانه من حاله وسريرة قلبه ، وإن كان - فيما يبدو للناس - صالحا .
فالذي يعتقده قلب الإنسان وتكنُّه نفسه لا يطلع عليه إلا الله ، ولكن هناك من شواهد الأقوال والأفعال ما نستطيع أن نرجح به صحة اعتقاد العبد أو فساده ، فإن كان على هدي السنة وطريق السلف أحسنا الظن به ، وإن كان على ضلالة أو بدعة لم نحسن الظن به .
ثالثا :
ينبغي للمسلم – إن كان عنده القدرة – أن يترقى في طلب العلم الشرعي ، فيقرأ تفاسير القرآن الكريم ، وشروح السنة النبوية ، ويطلع على كلام أهل العلم ، ولا يكتفي بتقليد شخص من الناس ، بل يبحث عن القول الراجح الموافق للقرآن والسنة النبوية فيأخذ به ، وكل إنسان يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى ، وكلما اقترب المسلم من الكتاب والسنة قل خطؤه ، وكلما ابتعد عنهما ازداد خطؤه .
رابعا :
مطالبة النفس بتوافق القول والفعل والاعتقاد حسن ، ولكن لا يدخل الإنسان مع نفسه في ذلك في محنة وابتلاء ، وأي داع يدعوه إلى أن يقول لنفسه : " أثبت أنّ ما تقوله هو ما تؤمن به ، وإلا فادع الله أن يدخلك النار إن كنت كاذباً " ؟!
هذا اتباع لوساوس الشيطان ، وسعي لهلاك النفس والدعاء عليها بالعذاب ، ولكن على المسلم أن يتعلم العلم والاعتقاد الصحيح ، ثم يجتهد ما استطاع مع نفسه ليصحح اعتقاده وليعمل بما علم ، وليس هناك داع أن يشكك الإنسان نفسه في اعتقاده ، ولا يتابع الشيطان على وساوسه ، ولا يلتفت إلى شيء من ذلك .
وعدم الدعاء بذلك ليس من باب الشك في العقيدة ، ولكن الدعاء به من اتباع الشيطان واتباع وساوسه ، والنجاة من هذه الوساوس لا يكون بالدعاء على النفس ، وإنما يكون بأن يقول المسلم : آمنت بالله ، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، وينتهي عن التفكر والاسترسال في هذه الوساوس .
نسأل الله تعالى أن يوفقك لكل خير ، وأن يبعد عنك وساوس الشيطان .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب