الحمد لله.
أولا :
لم يرد في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية المطهرة أي علم عما يراه المحتضر ساعة الاحتضار من الأقارب أو البشر ، ونحن المسلمين لا نجزم إلا بما ورد في الكتاب والسنة ، ونسكت عما سكت عنه الوحي المعصوم ، فقد قال الله سبحانه وتعالى : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) الإسراء/36.
وغاية ما ورد أثر يرويه ابن أبي شيبة في " المصنف " عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن يزيد بن شجرة رضي الله عنه قال : " ما من ميت يموت حتى يمثل له جلساؤه عند موته ، إن كانوا أهل لهو فأهل لهو ، وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر ".
ويروى نحوه عن مجاهد من قوله ، كما في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " (6/1202) ، ويزيد بن شجرة مختلف في صحبته ، أثبتها ابن معين والبخاري ، وأنكرها أبو زرعة . ينظر " الإصابة " (6/520) .
وهذا كما هو ظاهر ليس فيه دلالة على حضور الأموات أنفسهم ، سواء كانوا من الأقرباء أم لا ، بل روايته صريحه بأن الأمر لا يعدو كونه ( تمثيلا )، وذلك في قوله ( يمثل له جلساؤه ) ، ثم إنه لم يقيد ذلك بكونهم أمواتا .
فإن وقع شيء من ذلك ، لبعض المحتضرين ، من كلامهم لأمهاتهم وآبائهم أو أبنائهم وأقربائهم، فيحتمل أن يكون خيالا عرض لأذهانهم نتيجة ما هم فيه من الكرب العظيم ، وليس لقاء حقيقيا مع أرواح هؤلاء الأقرباء .
كما أن مثل هذه التخيلات لا تحمل أية دلالة على الخوف ولا على الاستبشار ؛ فحال الاحتضار أشد ما يكون على الإنسان ، وهو حينئذ لا يكاد يملك لسانه أو أركانه ، فليس في حديثه المتخيل مع أقربائه دلالة على خير أو شر قادم .
ثانيا :
البشرى الحقيقية للمحتضر ، إنما تحصل بما تبشر به الملائكة المؤمن في تلك الحال ، فهي التي تتنزل عليه ، وتجلس عنده ، فيشاهدهم ، وقد يتكلم بما يدل على ذلك منهم .
يقول الله عز وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) فصلت/30-32.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :
" أول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر ، وتجلس قريبا منه ، ويشاهدهم عيانا ، ويتحدثون عنده ، ومعهم الأكفان والحنوط ، إما من الجنة ، وإما من النار . ويؤمنون على دعاء الحاضرين بالخير والشر ، وقد يسلِّمون على المحتضر ، ويرد عليهم ، تارة بلفظه ، تارة بإشارته ، وتارة بقلبه ، حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة .
وقد سُمع بعض المحتضرين يقول : أهلا وسهلا ومرحبا بهذه الوجوه . وأخبرني شيخنا عن بعض المحتضرين - فلا أدرى أشاهَدَه أو أُخبِر عنه - أنه سُمع وهو يقول : عليك السلام ، ههنا فاجلس وعليك السلام ، ههنا فاجلس .
وذكر ابن أبى الدنيا أن عمر بن عبد العزيز لما كان في يومه الذي مات فيه قال : أجلسوني . فأجلسوه فقال : أنا الذي أمرتني فقصرت ، ونهيتني فعصيت . ثلاث مرات . ولكن لا إله إلا الله . ثم رفع رأسه فأحد النظر . فقالوا : إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين . فقال : إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ، ثم قُبض .
وقال فضالة بن دينار : حضرت محمد بن واسع وقد سجي للموت ، فجعل يقول : مرحبا بملائكة ربي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وشممت رائحة طيب لم أشم قط أطيب منها . ثم شخص ببصره فمات .
والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر .
وأبلغ وأكفى من ذلك كله قول الله عز وجل : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ) أي : أقرب إليه بملائكتنا ورسلنا ، ولكنكم لا ترونهم " انتهى من " الروح " (ص/64-65) .
ثالثا :
ثبت في الأدلة الشرعية أن الشيطان قد يعرض في بعض الحالات إلى الميت حال نزع روحه واحتضاره ، وقد سبق لنا بيان هذا الموضوع بالتفصيل والإفاضة ، وذلك في الفتوى رقم : (60191)، والفتوى رقم : (84404) .
وفي الختام نهنئك على إسلامك ، ونسأل الله تعالى أن يجعله إسلام خير ونور وسعادة ، وأن يقينا وإياك فتنة القبر وعذاب النار ، ويثبتنا عند الاحتضار .
والله أعلم .
تعليق